فقد وجدت (الفصل) غاصاً بهم، ولكني لا أذكر منهم إلا وجه الأستاذ محمود عزمي فقد كان يجلس إلى أقصى اليمين، وكان مكاني الذي قصدت إليه في أقصى الجنوب، وكانت وراءه نافذة مغلقة فوضعت ما أحمل على حافتها، وعرفت في هذه اللحظة فقط أن الذي أحمله هو قطع شتى من الحلوى والفطائر والسندوتش. وتذكرت وأنا أضع ذلك على حافة النافذة المحكمة العسكرية التي شهدت جلساتها أيام كنت أعمل في جريدة الأخبار. وكانت المحاكمة طويلة وكنت أوافي الجريدة بأنبائها مفصلة، وكانت الجلسات تعقد في الصباح وفي المساء أيضاً كل يوم. وكنت أتعب وأجوع وأظمأ، فكان المرحوم أمين بك الرافعي يبعث إليّ مع الخادم الذي يجيء ليأخذ مني الأوراق التي كتبتها بالسندوتش وما إليه و (بترموص) فيه عصير الليمون فكنت آكل وأشرب وأفرق
وكان الأستاذ الذي وجدته في (الفصل) شاباً وكنت أحس أني أعرفه. ولم أستغرب أن يكون شاباً، وحدثت نفسي إن هذا خير من أساتذتي القدماء الذين كانوا جميعاً من الشيوخ، ولا أعني الشيوخ ذوي العمائم بل من الشيوخ في السن، ولا استثني منهم إلا واحداً هو الأستاذ الشيخ احمد الإسكندري، أراني لا أزال أضن به أن أسلكه مع سواه ممن علموني في صغري. وقلت لنفسي وأنا واقف في مكاني - فما أذكر أني قعدت - عسى أن يسير بنا هذا الأستاذ الشاب في نهج مستقيم واتجاه سديد فقد أضلنا تعليمنا القديم وحيرنا وتركنا كالتائهين في الصحراء، وما كان لنا من أساتذتنا السابقين مرشد أو معين؛ وأحسبهم ما كانوا يعرفون إلا ما يعلموننا، فلهم العذر إذا كانوا قد عجزوا عن هدايتنا وإرشادنا والأخذ بأيدينا.
وكان الأستاذ يحمل خيزرانة - فما استطعت حتى في الحلم أن أتخلص من صور المدرسة القديمة، وكان أبرز ما فيها العصا - وابتسمت وأنا أنظر إلى الخيزرانة في يد المعلم ونظرت إلى الأستاذ عزمي فأدرك ما أريد وهز رأسه وابتسم ابتسامته المحببة وقال:(أيوه يا سيدي. . . لا يزال القديم على قدمه مع الأسف).
وقال الأستاذ شيئاً فهمت منه أنه يريد أن يلقي أحدنا كلمة استهلال - أي أن يفتتح الدرس، فأعربت عن استعدادي لإلقاء الكلمة المطلوبة، فقال الأستاذ عزمي:(من أول يوم يا مازني؟) فابتسمت له راضياً وتنحنحت استعداداً للكلام، وأذن لي الأستاذ فقلت كلاما لا أذكر منه مع الأسف ولا حرفاً واحداً، ولكني أذكر أني كنت وأنا أتكلم أحدث نفسي بأن