وكما أن لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البرية التي بلغت أحياناً قاصية الأناضول شمالاً، وأقاصي السودان والحبشة جنوباً، فكذلك لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البحرية، بل إن تاريخ مصر البحري يبدو أحياناً في ألوان من العظمة تضارع سيرة أعظم أساطيل هذه المياه في العصور الوسطى؛ فقد كان الأسطول المصري طوال هذه العصور يملك ناصية شرق البحر الأبيض، ويناهض أسطول الدولة البيزنطية، وأسطول البنادقة أعظم أساطيل العصر، وكانت له في تلك المياه جولات وفتوحات عظيمة حتى أواخر القرن الخامس عشر
ومنذ القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) نرى مصر تعنى بأسطولها عناية فائقة، وتنشئ دور الصناعة أو المصانع البحرية العظيمة لتغذي أسطولها باستمرار بمختلف الوحدات البحرية؛ وكانت دور الصناعة بمصر والإسكندرية ودمياط أيام الفاطميين تخرج أعظم الوحدات البحرية المعروفة في ذلك العصر. وبلغ الأسطول المصري في أوائل عهد الدولة الفاطمية نحو ستمائة قطعة ترابط في الإسكندرية ودمياط وعسقلان وفي البحر الأحمر. وكان للأسطول وشئونه ديوان خاص يعرف بديوان الجهاد أو ديوان العمائر؛ واشتبكت مصر أيام الفاطميين مع الدولة البيزنطية في عدة معارك بحرية شهيرة. وفي أيام الدولة الأيوبية لعب الأسطول في المعارك الصليبية دوراً خطيراً؛ وكانت الحراقات أو قاذفات النار المصرية عاملا حاسما في هزيمة لويس التاسع ورده عن مصر. ومع أن الأسطول لم يحظ أيام دول السلاطين بمثل العناية التي حظي بها أيام الفاطميين، فإنه لبث منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر عاملاً هاماً في التوازن الدولي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي أوائل القرن الخامس عشر افتتح الأسطول المصري جزيرة قبرص في عهد الملك الأشراف بارسباي (سنة ١٤٢٥ م)، وغزا رودس أكثر من مرة؛ وكان يشتمل يومئذ على نحو ستين قطعة، وكان معظم بحارته من المتطوعين الذين يهرعون إليه كلما دعا داعي الجهاد. وما زالت مصر أيام السلاطين تحتفظ بأسطولها حتى الفتح العثماني، بل نرى السلطان الغوري آخر أولئك السلاطين يجدد الأسطول المصري ويعده لمحاربة البرتغاليين للمحافظة على طريق الهند القديم الذي كانت