ومن أنت حتى يحاسبك الله العظيم؟! على أن في الحياة كفارة. . .
فيقف في غمرة من الحيرة بين وحي الملك ونزغ الشيطان، ولكن صراخ الدم وزلزلة الإيمان مضافاً إليهما حديث الملك مضافاً إليها حكم العقل بأن الحياة الدنيا ما دامت تنتهي فالأولى أن تنتهي بشرف. . . وما دامت اللذات والمناعم، بنت ساعتها، لا تحيا في النفس إلا ريثما تحيا في الحس. وليس لها نصيب من حياة الذكرى الخالدة فالأولى أن تُفْطمَ النفس عنها وبخاصة إذا دعا داعي الواجب وقالت قوانين الحياة الشريفة: يا إنسان النجدة!
كان (موظفاً) في الحكومة، والوظيفة رخصة تبيح لصاحبها عند نفسه وعند بعض الناس أن يغضي على كل لعنة تصيب دينه ووطنه. .! وأن يكفر بالله ويعبد الرغيف. . . وليس الرغيف الضروري فحسب بل الرغيف المرصع بكل لذات الفم له ولأبنائه وذرياتهم إلى يوم القيامة. .! حتى لا يستهدف بزعمه للعناتهم. . . وأن يقيم حول ذلك الرغيف سورا وقلاعا من العمارات والضياع تحفظه ممن يتعقبونه. . .
يا ما أعجب أنانية الإنسان! إنه لا يدرك من حقه إلا ما امتلكه من التافه والحقير. . . أما حقه الكبير الذي به سر حياته فلا يدركه ولا يغار عليه ولا يألم لوخز قلبه في عقيدته كما يألم لشوكة تخز خلية من خلايا جسده الترابي. .! ولا يثور لحق وطنه المسلوب كما يثور لمتاع سرق أو حمار نَفَقَ. .!
ولكن صاحبنا كان من الذين يضعون دائماً قلوبهم على أكُفّهم يعلنونها مستبرئة ظاهرة ليخيفوا بمرآها من ليست لهم قلوب. . . أو من كانت قلوبهم هواء، أو ليجعلوها دائماً تحت التأثير المباشر للحوادث، تقرعها الحادثة فتجد صداها مردداً في صدق وبعدٍ عن الرياء والتدليس، أو ليستفتوها إذا نزل أمر عاجل يتعجل الفتوى من إلهام الطبيعة وميزان الفطرة. لذلك ما كانت قيود الوظيفة ضمامة على سمعه تمنعه من سماع نداء الواجب، ولا كمامة على فيه تمنعه من كلمة الحق. . . فلم يكن يدلس على نفسه بتأويل الحوادث ودفعها إلى غير وجهها وتحميلها غير ما يتقاضاه منطقها، وخاصة إذا كان مدار الحوادث دينه أو وطنه، فحينذاك يضع قلبه في كفة ميزان والوظيفة بما وراءها من جاه ومال ودعة في كفة، ويختار الذي هو راجح وخير، وهو الأول دائماً!
فلما أن طار الحريق في جو وطنه من أنفاس الأحرار حسرة على ما أصاب بلادهم