بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلى هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبو لّون. . . وإلا. . . وإلا تلك الكلمة القاسية التي كتبها الرافعي بأسلوبه اللاذع عن (شعراء العصر) سنة ١٩٠٥ ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيّل الشعراء. . .
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق. . . وقال الرافعي: قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يُسند إليّ من عمل؛ وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل - فلا عليّ إن تمردت على هذا التعبد. . قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هذين الإصبعين ساعات من النهار. . .!
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر، ثم طوى أوراقه، وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة الحقانية يقول:
إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود. . . إن للرافعي حقاً على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية. . . إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه. دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتنّ ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخيّ في غير هذا المكان. .!
وبلغ التقرير وزارة الحقانية، وانطوت القضية، وصار تقليداً من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه، وله الخيرة في أمره؛ ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوماً واحداً أنه في موضعه ذاك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما. ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود؛ وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبت الشعر والأدب؛ فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان. وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر،