الأمور بالعلم، فنحن لا نؤمن إلا بالشعب وبحكمته. فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصت إلى السكون يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء. وإذا هم هزهم الشعور المرهف خيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم فيرونها تنحني على آذانهم لتلهمهم البيان الساحر والأسرار، فيقفون مباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
واأسفاه! إن بين الأرض والسماء أموراً كثيرة لا يحلم بها إلا الشعراء وهناك أمورٌ أخرى كثيرة فوق السماء، فما جميع الآلهة ألاّ رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبداً إلى العلياء، إلى مسارح الغيوم فنرسل إليها أكراً منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبشراً متفوقين. والحق أنهم من الخفة على ما يجعلهم أهلا لاقتعاد مثل هذه العروش
ويلاه! لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئاً معدوداً؟ ولكم أتعبني الشعراء؟
وما نطق زارا بهذا الكلام حتى ثارت نفس تابعه، ولكنه كظم غيظه فسكت وسكت زارا أيضا وغيض نظره كأنه يسبر أقاصي نفسه، ثم تنفس الصعداء وقال: أنا من الأمس ومن الزمن القديم ولكنَّ في شيئاً من غدٍ وبعده ومن الآتي البعيد. فقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمجددون فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم أسِرَّة بحار جفت مياهها. إن أفكارهم لم تنفذ إلى الأغوار، وقد وقف شعورهم عند أول جرفها. وخير ما ترى في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر فليست بحورهم إلا مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح فهم لم يدركوا شيئاً بعد من القوى الكامنة في النبرات. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور؛ إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفقين بين مختلف المعتقدات غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص السائرين على السبل المتوسطة الحائرة فهم يعكرون المياه بأقذارهم.
وآسفاه لقد ألقيت شباكي في بحارهم آملا اصطياد خير الأسماك ولكني ما سحبت هذه الشباك مرة إلا وقد علق فيها رأس إله قديم. وهكذا كان يجود البحر بحجر على الجائع. ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم أيضاً من البحر وفيهم ولا ريب بعض اللآلئ، فهم أشبه بنوع من المحار الممنع بأصدافه، ولكم وجدت في داخلهم بدل الروح شيئاً من الرغوة