الصادرة عنها، ولكن النفس وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وإن كانت حية مشتملة بالقوة على جميع عناصر القدرة التأثيرية، وهي مبصرة ولكنها عاجزة على عكس المادة العمياء المشتملة على قدرة كامنة يستحيل بروزها من غير اتصالها بالنفس، وهم لهذا يشبهون اتحادها باتصال مقعد وأعمى التقيا في الصحراء، فاتفقا على تعاون عملي بينهما يضمن لهما النجاة، وهو أن يحمل الأعمى المقعد على كتفيه، ليمكنه من السير مقابل أن يدله المقعد بوساطة بصره على الطريق الذي لم يكن في مكنته أن يعرفه لولا معاونة رفيقه، وقد وصلا معاً إلى شاطئ النجاة بفضل هذا التعاون العظيم. وهكذا شأن النفس مع المادة هيأ لهما اتحادهما إبراز خواصهما التي لم تكن لتوجد بدون هذا الاتحاد.
وللمادة ثلاث صفات ملازمة لها، وهي الخيرية والهوى والظلمة، وإن هذه الصفات تظل تتفاعل فيما بينها في عصور مختلفة حتى تصل إلى حالة الاعتدال التي تسوي بينها، فإذا وصلت إلى هذه الحالة تطورت تطوراً آخر جديداً نشأت عنه الطبيعة، وبارتباط النفس والمادة المتطورة والطبيعة الناشئة عن هذا التطور يوجد هذا العالم المشاهد. غير أن هذه النظرية لم تلبث أن تلاشت وحلت محلها نظرية أخرى على العكس منها تماماً، إذا أصبحت فكرة الارتباط الحقيقي بين النفس والمادة لا وجود لها، وإنما أصبح الرأي السائد هو أن النفس تجتمع مع المادة اجتماعاً مؤقتاً، أساسه الضرورة التي تتطلبها الحياة الدنيوية، ثم لا تلبث هذه الضرورة أن تزول فتتخلص النفس من هذه الصلة المقيدة لها ثم تنطلق إلى عالم الأبدية الأعلى حيث تنام بلا نهاية نوماً عميقاً هادئاً لا تزعجه الرؤى ولا تنغصه الأحلام.
ويرى كذلك أن الشر في هذا العالم موجود وجوداً ذاتياً وأنه لا يقدر على محوه إلا بوساطة العمل الصالح والتخلي عن جميع اللذائذ والتأمل في أسرار الكون، وعلى الخصوص بالمعرفة التي هي الغاية المثلى من جميع هذه المحاولات المتقدمة.
وهم للحصول على هذا الخلاص المنشود يغالون في التصرف مغالاة شديدة حتى ليجلس الواحد منهم على شاطئ أحد الغدران عدة أعوام طويلة دون أن يغادر مكانه، ويقتات بالأعشاب ويديم التفكر في أسرار الكون، ولا يزال يغالب نفسه حتى ينتزعها نهائياً من دنس المادة، وقد تصل به الحالة أثناء هذا التنسك إلى أن يصير جسمه نصف متحجر