من بضعة كتب من الكتب المصفوفة على رفوفها هي مثل زيارة لمتحف من متاحفها وإلقاء نظرة على ما يعرض فيه من النفائس فيها المقنع الكافي على صحة ما قلنا.
وقد دخلنا الآن في دور النهضة ويلوح لي إننا سبقنا إلى مباشرة المصنوعات المعنوية ولكننا من حسن الحظ أخذنا أخيراً في مباشرة المصنوعات المادية أيضا كما تشهد المعامل والمصانع الحديثة المنصوبة في هذا القطر السعيد وما جاوره من الأقطار العربية الشقيقة. ولا اعرف حافزا دفع الأمم الأخذ بالصنائع مثل الحرب العامة. فقد كان من نتائج الحصار الذي عانته الشعوب في غضونها وانقطاع أسباب المواصلات بينها أن التجأ بعضها إلى مصنوعات تكاد تكون من عمل القرون الخالية، ولا أزال أذكر كيف أن انقطاع الثقاب والنفط (الكاز) عن سورية مثلا في سني الحرب العالمية عاد بالاهلين إلى استعمال القداحة وسراج زيت الزيتون، وكان هذا الحافز أشد ظهورا في الحاجات والأدوات يتوقف عليها تسيير دفة القتال كما هو ظاهر من إخفاق روسيا العزلاء في هجومها المتكرر على ألمانيا والنمسا وتركيا وخروجها من الحرب أخيرا على تلك الحالة المزرية منكسة الأعلام. لا جرم أن الأمم التي شعرت يومئذ بنقص مصنوعاتها وتعلقها على غيرها من الأمم وارتباطها بها اقتنعت بعد هذه الدروس الخطرة المملؤة بالكوارث أن لابد لها من الاستقلال الصناعي وهو لا يقل شأنا عن الاستقلال السياسي، بل لا يتم هذا بالمعنى الصحيح من غير ان يتحقق ذاك. لان الأمة التي تنتظر غيرها أن يعمل لها البنادق والمدافع للدفاع عن حوزتها هي أمة غير مستقلة في أهم شؤونها. وزاد الشعور بهذه الحاجة تلك الوطنية الاقتصادية الحديثة التي تحاول أن تصدر كل شيء وألا تستورد شيئا، وما هذه الحواجز الجمركية القائمة بين الشعوب إلا عنوان هذه الوطنية الصارمة، ويكون جزاء الأمة المتساهلة في هذا الباب إغراق أسواقها بمصنوعات غيرها واختناقها بمصنوعاتها، وعرفت إنكلترا من بين سائر الأمم بالميل في تجارتها إلى (الباب المفتوح) ولكن حوادث الزمن أرغمتها على إغلاقه كما علمت غيرها أن تكون متشددة، وما لم يقم التفاهم مقام التنازع، وهذا مستبعد في الأحوال الحاضرة، فان هذه الحواجز ستشتد وتقوى. إن نهضة مصر الصناعية هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغير جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، وهذا هو