العذاب الغليظ والمقت الشديد هي التي تريد أن تتخلص منهم فلا تجد إلا فلسطين المسكينة تقذف بهم عليها وتقول: اتخذوا لكم وطناً قومياً هنا. . .
ومن سوء حظ اليهود أن لا وطن لهم، ولكن العرب لا ذنب لهم في ذلك ولا كانوا هم الذين حرموهم أن يكون لهم هذا الوطن. وما تعلق اليهود بالوطن القومي و (صهيون) إلا من طول ما قاسوا من العذاب في أوربا وهول ما صبه أهل هذه القارة عليهم من البلاء. وإنك لتجد اليهود القدماء في فلسطين لا يحلمون بهذا الوطن القومي إلا مجاراة وتقليداً لليهود الأوربيين وخوفاً من أن يتهموا بالخروج على ملتهم، لأنهم كانوا حتى على أيام الحكم التركي يعيشون في بلهنية ورخاء، بل كانت حياتهم أهنأ وأرخى من حياة أبناء البلاد العربية
فلولا وعد بلفور ما حلت الجفوة ولا وقعت النبوة بين العرب واليهود، ولكن إنجلترا التي تعهدت للعرب أن تؤازرهم على الفوز باستقلالهم وحريتهم فثاروا لهذا على دولتهم رمتهم بالوطن القومي والهجرة اليهودية فلم يسعهم إلا أن يتدبروا ما هددوا به؛ وهل هو إلا الجلاء عن وطنهم؟ وإلا أن يكرهوا ذلك ويثوروا عليه، ومن الذي لا يثور على من يبغي إخراجه من دياره وطرده من وطنه. .؟
والآن تجئ بريطانيا فتقول دعوني أقسم بينكما البلاد فلليهود شطر وللعرب شطر، ولتكونوا بعد ذلك إخواناً وجيراناً متوادين. تأخذ مني أرضي وتعطيها لأجنبي وتقول لي كن أخاً له وأصغ إليه بالود! وبأي حق تخول نفسها أن تفعل ذلك؟ لا حق إلا أنها وعدت اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. ولكن من خولها أن تبذل لهم هذا الوعد؟ لا أحد. . . هي خولت نفسها ذلك وانتحلت الحق فيه وعدت نفسها ملزمة بالوفاء، والعرب ملزمين بالإذعان لقضائها فيهم. ولو أنها كانت تُقطع اليهود من بلادها هي لما كان لأحد وجه اعتراض على ما تصنع، فإن الأرض أرضها وهي حرة في أن تجود بها على من تشاء من خلق الله. ولكن البلاد ليست بلادها ولا تزعم قط أنها مستعمرة لها وإنما هي فيها بما سموه (الانتداب) والانتداب معناه أن البلاد أمانة في عنق الدولة التي ندبتها العصبة لإصلاحها وترقيتها وإعدادها لحكم نفسها بنفسها ولنفسها، ولم نكن نعرف قبل اليوم أن من معاني أداء الأمانة تضييعها والتسخي بها على غير أصحابها. . .