وتؤمّنه على حياته الفردية وتفسح المجال لجده وذكائه. واستقلال الفرد وإفساح المجال لجده ومواهبه من أسباب رقي الأمة كمجموعة متكونة من أفراد تربطهم روابط عدة، طبيعية وثقافية، ولكن هذه النتيجة الإيجابية مقيدة بتنفيذ هذه الأسس وبفهم الشعب لها فهماً صحيحاً، والتنفيذ والفهم كلاهما ليس حاصلاً لأي أسلوب من أساليب الحكم، وإنما هما مقدمة من مقدمات نجاح الحكم نفسه وعادة تتكون بالمران في نفسية الشعب.
فأسلوب الحكم نفسه لا ينتج عادة وإنما يرعى العادات. في ظله تتكون عادات ذات أثر إيجابي أو سلبي في رقي الشعب أو انحطاطه. وتكوُّن العادات الحسنة سبيله الوحيد التربية والتهذيب. فإذا استقر في نفس الشعب حب الحرية وفهمها فهماً صحيحاً، إذا عرف معنى المساواة، كان عمله طبق ذلك الفهم وهذه المعرفة، وكانت خطواته دائماً إلى الأمام؛ وما أسلوب الحكم الديمقراطي حينئذ إلا مظهر خارجي فقط لمعنى نفسي مستقر، طبيعي أو مكتسب.
فالشك إذن محوط بنظام الحكم وبنتائجه الإيجابية في رقي الشعب كعامل أول في تطور الأمم، ولكن الأمر الذي لا مرية فيه هو عامل التربية التي تنفذ إلى نفس الفرد والجماعة وتكيفها حسبما تختط الأمة لنفسها.
فإذا لم يرب الشعب الضعيف المستعبد على حب الحرية والمطالبة بالاستقلال، لم يشعر بمعنى الحرية وبمزايا الاستقلال إذا ما تركته القوة المستعمرة وخلته ونفسه، بل بالعكس لا ينال من هذا الاستقلال إلا الفوضى وعدم استقرار النظام حتى يتحكم فيه نفر من الشعب نفسه ويسوسه بالقوة والعنف ويومئذ يشعر بحكومة وبنظام.
فإذا قدر للنظام الديمقراطي في أمه لم تتكون عندها بعد الملكات الاستعدادية له أن يكون ذا نتيجة إيجابية في تطور الشعب فلن تلمس إلا بعد زمن طويل وجهد شاق يقوم به زعيم مترسم لبرنامج معين مقصود. ومع ذلك يصح أن ينسب هذا التطور إلى الزعيم كمرب اجتماعي لا إلى الحكم الديمقراطي من حيث هو.
فالنظام الديمقراطي في إنكلترا مثلا ليس نظاما موضوعا ولا مواد دستورية مفرغة في الصيغ القانونية، وإنما هو نظام يحس به الشعب وقد خلقه من نفسه خلقاً، وتكون كنتيجة لازمة لأسلوب مخصوص في التربية، ولعادات مخصوصة لها بطول الزمن قوة الملكات