للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وعى من تراث شعراء العربية. وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يمتد إليهما طرفه ويتعلق بهما أمله: هما البارودي وحافظ؛ أما أولهما فكانت له زعامة الشعر، على مفرقه تاجُه وفي يده صولجانه، قد قوي واستحصد واستوى على عرشه بعد جهاد السنين ومكابدة الأيام؛ وأما الثاني فكان في الشباب والحداثة، وكان جديداً في السوق، قد فتنته الشهرة وفتنت به من حوله؛ فأخذ الرافعي ينظر إليه وإلى نفسه، ويوازن بين حال وحال، ويقايس بين شعر وشعر؛ فقر في نفسه أنه هو وهو، وأنهما في منزلة سواء، وأنه مستطيع أن يبلغ مبلغه ويصير إلى مكانه إذا أراد؛ فسار على سنّته وجرى في ميدانه، لا يكاد حافظ يقول: أنا. . . حتى يقول الرافعي: أنا وأنت. . . وما فاته أن حافظاً يغالبه بالشهرة السابقة، ويطاوله بالجاه والأنصار، ويفاخره بمكانه من الأستاذ الإمام، وبمنزلته عند البارودي زعيم الشعراء، وبحظوته عند الشعب؛ فراح الرافعي يستكمل أسباب الكفاح ويستتم النقص؛ فأكد صلته بالبارودي، وعقد آصرة بينه وبين الأستاذ الإمام، ومضى يتحدث في المجالس، وينشر في الصحف، ويذيع اسمه بين الناس. وانتهز نهزة فذهب يستطيل بأنه (شاعر الحسن) وبأن حافظاً لا يقول في الغزل والنسيب. . .!

كانت المنافسة بينه وبين حافظ منافسة مؤدبة كريمة، لم تعكر ما بينهما من صفو المودات، ولم تجن على صداقتهما القوية، فظل الرافعي وحافظ صديقين حميمين، منذ تعارفا في سنة ١٩٠٠ إلى أن قضى حافظ رحمه الله في سنة ١٩٣٢.

ليس من همي أن أتحدث عن شعر الشاعرين، أو أقايس بين فن وفن وشاعرية وشاعرية، فقد يبدو لي هنا بعد ما بين المنزلتين في الموازنة بين الرافعي وحافظ في الشعر؛ وما يهمني في هذا الحديث إلا إثبات الصلة بين الرجلين؛ فمن أراد شيئاً وراء هذا فسيجد فيما أثبته هنا مقدمات البحث وهيكل البناء.

في أبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئاً من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فناً ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغاً، فقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به، ليصل به حبله

<<  <  ج:
ص:  >  >>