فانتقل بنا من المدرسة التي كانت تقصر الشعر على الجاهليين والمخضرمين إلى مدرسة تعرف الفضل للعباسيين والمحدثين، وانتقل بنا مع ذلك من جماعة الزي الواحد والنمط الواحد إلى جماعة المكاثرين بالأزياء والأنماط. فقد كان الناقد قبله يستحسن البحتري ثم لا شيء بعده ولا شيء غيره، فجاء البارودي على آثار من سبقوه يجمع بين المعري والبحتري وبين ابن الرومي وابن المعتز في ديوان واحد
ولا تزال في مصر بقية من المحدودين المطويين على أنفسهم يلج بهم الغرور ويشتد بهم الوهم على مقدار ما يضيق بهم المجال وينحسر بهم الذوق والشعور. فهم على يقين ما بعده يقين أن (الذوق) لم يخرج من مصر، وأن الذوق هو ما اصطنعوه من الفكاهة الغثة أو الرقة المحفوظة المدبرة المتشابهة العبارات والتحيات والمصطلحات، أو الجناسات الكلامية والفكرية التي لا تطلع على الذهن بلمعة من نور، ولا تترك فيه فضلة من فهم، ولا تبعث فيه حركة من حياة. وتسألهم: كم عدد الشعراء الفحول في عشرة آلاف سنة بين القوم الذين رزقوا الذوق كله والإحساس كله ولم يتركوا على زعمهم بقية منهما إلا كما يترك السؤر في الإناء المهجور؟؟ وكم واحداً من (أبناء البلد) الذين لا ذوق إلا ذوقهم، ولا إحساس إلا إحساسهم، ولا فكاهة إلا فكاهتهم، ولا فطنة إلا فطنتهم، قد صعد في مراتب الفن والشعر إلى مواطئ أقدام المحرومين المساكين، الذين لا يشعرون ولا يتذوقون، ولا يستمرئون اللطافة ولا يستملحون المعاني والنكات؟؟ وإذا كان ما استقروا عليه هو غاية الحس والذوق، وحمادي الإبداع والإحسان، وقصارى الأناقة والجمال، فما بالهم لم ينجبوا رجلاً واحداً خلاقاً في عالم الشعر أو الكتابة أو التصوير أو الموسيقى، وقد أنجبت الأمم المئات والألوف؟
سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء الذوق بيننا أنهم صفر من الذوق، وأن الله لم يخلق على الأرض طائفة أغلظ منهم حساً، وأثقل منهم روحاً، وأفرغ منهم لباً، وأعضل منهم داء على العلاج
سيمضي زمن نرجو ألا يطول قبل أن يفقه أدعياء النقد عندنا أن الذوق الذي يستحسن حسناً جميل، وأجمل منه الذوق الذي يستحسن الحسنين، وأجمل منهما الذوق الذي يستحسن الشيئين بينهما تناقض في الحسن كأنهما ضدان