المثل الأعلى العظيم تحقق تقريباً في القرون الوسطى أي من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر. فالمسيحية في ذلك العهد كانت عبارة عن أسرة مكونة من جميع الأمم المسيحية، تحت نفوذ رئيسين وهما البابا والإمبراطور. ولم يكن هذا النظام في الوقع إلا نوعاً خاصاً من (عصبة الأمم) تقوم على أساس من الدين. وكان رئيس المسيحية يحظى بسلطان كبير، فكان في استطاعته أن يصدر قرار الحرمان ضد أية دولة أو ضد جماعة من الأفراد، ومن حقه أن (يشلح) أي فرد ولو كان رئيس دولة؛ وهذا القرار الذي يجعل الدولة التي صدر ضدها خارجة على القانون له نتائج خطيرة، لأنها تصبح عرضة لعدوان الدول الأخرى عدواناً مشروعاً. وهذه الحال من غير شك تنتج اضطراباً خارجياً. وفوق لك فإن رعايا الأمير الخارج على القانون يصبحون في حل من يمين الطاعة والإخلاص له، وينتج عن هذا اضطراب داخلي دون ريب. وقد لجأ البابوات كثيراً إلى هذه الوسيلة لحفظ السلام وليصبحوا رؤساء إمبراطورية شاسعة كما يقول بعض المؤرخين.
وكانت الحروب في تلك الأزمنة مشروعة ضد الملحدين، وجائزة في أحضان المسيحية نفسها. ولكن البابوات والأساقفة كانوا يبحثون عن وسائل لتقصير مدتها وتخفيف نتائجها؛ من ذلك أن مجالس الدين في تولوز وكليرمون بفرنسا أذاعت في الناس ما يسمى (هدنة الله) و (سلام الله) ووجدت هذه الإذاعة من الدول المسيحية ما تستحقه من الاحترام.
والغريب في ذلك العهد أن الحرب نفسها كانت متلفعة بروح من العدل. ولم تكن الموقعة تقوم على خطط حربية، ولكن كان المعتقد أن الذي يخرج من الحرب ظافراً، سيخرج من محكمة الله في الأخرى وعلى رأسه تاج النصر والظفر؛ وعلى ذلك كانت تجري المواقع بطريقة تبعث اليوم في النفس دهشة شديدة. فالخصوم كانوا يتواعدون في ساعة ومكان معينين، ويصطفون للموقعة بطريقة نمطية لا تتغير، ثم يهجم بعضهم على بعض وجهاً لوجه. وكانت خدع الحرب إلى القرن الخامس عشر تعتبر خيانة وعاراً ينفر منه المقاتل أشد النفور. وأول موقعة طبقت فيها خطة حربية بمعنى الكلمة هي موقعة رو كروي بين فرنسا وإسبانيا، إذ قام الأمير دي كونديه بحركة التفاف طوق بها الأسبان وانتصر عليهم، ولكن هذا العمل من جانب الأمير بعث التذمر في صدور كثير من فرسانه النبلاء، لأنه لا يمت في نظرهم ونظر عصرهم بأية صلة إلى النبل والشرف في القتال. وإذن نستطيع أن