أن هذه الاتجاهات محيطة بحياتنا الحاضرة، ولا نستطيع أن نحل عقدة من عقدها إلا بمقتضاها!
يظنون أن الأدب القومي أن يكون الأديب بوقاً ينفخ في كل حادثة، وفي مقدم كل وزير أو زعيم، ومثل هذا الأدب لا يحتاج إلى أن نبدي إعراضنا عنه، وإنما الأدب القومي روح يعلقنا بحب هذا الجو وهذه الارض، ويجلو لنا عن روائع الجمال فيها، ولست أذكر أنني تلوت شيئاً من هذا!
أذكر أنني في هذه السنة كن أنا ورفاق نقوم برحلة في أطراف الفرات الاوسط، فجزنا قرية تدعى (الميادين) وكانت أناشيد الرفاق تتعالى. فهب من في السوق يصفقون لهم، فما راعني ذلك، ولكني أبصرت رجلاً ضريراً مخدود الوجه، ممزق الثياب، هب يلمس بوجهه مواقع الصوت والصدى ويداه تصفقان، فطفرت من عيني دمعة وتمثلت الشعور الوطني يتيقظ في نفسه. فقلت: ألا يجد أدباؤنا في هذا المظهر مادة وموضوعاً؟ ألا يجد شاعرنا عاطفة تهزه كالعاطفة التي ولدتها فيه قبلة محبوبة؟ وأخيراً ألا نجد في هذا الضرير رمزاً للأمة التي فقئوا عينيها فهبت تتلمس النور بغير الحاسة التي خلقت لالتقاط النور، وقد استحالت كل حاسة في جسدها عيناً تبصر، وقلباً يشعر!
أعرف في هذا البلد فئة - قد تكون مخلصة - تدين بالأدب الإنساني، ولا تعنى بالأدب القومي، تمشي فوق رءوس الحقب، وتعلو على حالات عصرها لأنها في اعتقادها حالات زائلة كالغيوم؛ ولا أستطيع أن أناقش هذه الفئة، ولا أن أصرفها عن غايتها النبيلة، وكلني أعلم أن الأدباء الإنسانيين أنفسهم الذين بشروا بالدعوة الإنسانية والأدب الإنساني هم قوميون قبل أن يكونوا انسانيين، لأن الذي لا يتسنى له أن يحس آلام شعبه الذي هو من لحمه ودمه، لجدير بألا يتسنى له أن يحس آلام الإنسانية. .
اتركوا الأدب والفن وعودوا إلى العلم المجرد والأخلاق تجدوا أن كل شعب يثبت فيهما شخصيته التي تختلف عن شخصية غيره. تأملوا الطرق الرياضية الجبرية التي يسلكها العقل الجرماني تجدوا أنها طرق مطلسمة مبهمة تلائم هذا العقل. على حين أن العقل الفرنسي الرقيق يخضع المنطق له ويسلك فيه الطرق الواضحة. وكذلك قولوا في الأخلاق: فكل أمة رتبت أنظمتها بحسب عاداتها. ولو أن طريقة العلم واحدة لما وجدنا طريقة كل