للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عالم تختلف عن طريقة الآخر. . . وإذا كان هذا شأن العلم والأخلاق فكم يكون اختلاف الأدب والفن اللذين يترجمان عن حياة الأمة؟

يقولون: لا وطن للفن! باعتبار أنه إذا صدر عن إنسانية معينة فإنه يخص كل الناس. لأن الإنسانية الكلية هي مجموعة هذه الانسانيات، والفن الكلي هو مجموع هذه الفنون، والفن صلة القربى بين الناس.

يقولون: لا وطن للفن! وأنى لنا أن نسلخ الفن عن الشعب الذي خلقه على صورته، أبالإمكان أن نسلخه عن الطبيعة التي أحاطت به، والتراب الذي حمله؟ والسماء التي حنت عليه، والهواء الذي تنشقه، والوطن الذي احتضنه، وصدى أصوات الأجداد الذين نقلوا إلى الأحفاد ما ورثوه؟ إن الشعب باستطاعته أن يقتبس عن شعب آخر ثم يبقى ما يقتبسه كما هو؛ ولكن من جراء ذلك أن يتنازل عن شخصيته، ويخضع لهذا الغريب خضوعاً أعمى لا يفسر إلا بالجحود بعبقرية الوطن. لقد أخذت روما عن اليونان أنظمتها وفنونها التي أحبتها ولكنها لم تفهمها، فأعطت زخرفة جميلة ولكنها لم تعط أثراً فيه حياتها. وهكذا لا نستطيع أن نقول: هذا أدب إنساني قبل أن نقول: هذا أدب عربي أو إيطالي أو جرماني! إن أطوار الأدب والفن هي ترجمان صادق عن العصر المتحول، يظهر لنا مراحل الطريق، ومراحل السعي، ويحدد لنا أعمار الأمة، ومن خلال كل هذه الخطوط والصور والألوان نجد صورة الوطن، ونستشف ملامحه الحقيقة؛ وقد رأينا أن الأدب أكثر أنواع الثقافة تعلقاً بحياة الأمة، لأنه لا يصور إلا حياتها ولا يسرح إلا في جوها، والذرية العبقرية تكتسب من بيئتها صفات متى حان الوقت أظهرتها، وحولتها إلى الإبداع؛ وعصير الأرض الوطنية يسقي الشجرة الإنسانية؛ وبهذه الإنسانية الشخصية، وبهذا المثل الأعلى الخاص يعلن كل شعب مزاياه وعبقريته. والعظماء أنفسهم لم يستغنوا عن هذه القاعدة، لأنهم كانوا قبل كل شيء وليدي بيئتهم وجيلهم.

إن إنكار القومية ليس جحوداً بقيمة التاريخ وتنائجه فحسب، بل هو إغضاء عن الجغرافية وجهل بعمل الأرض والسماء والبيئة، لأن الأوطان ليست بفكرات خيالية ولا شعرية ولا وهمية، وإنما هي حقائق ظاهرة ثابتة؛ والثقافات المختلفة تثبت ذلك، وكل وطن يحدد حياة أهله ويلهمهم فنه! ولكل شعب أدبه وفنه، وهو بهذا يمثل دوره في القصيدة الكبرى، وإنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>