نود أن نعود إلى حمل مشعل جديد ورسالة جديدة إلى الإنسانية، ولكنا نريد ألا تصرفنا هذه الإنسانية عن قوميتنا، بل نريد أن نكف عن هذه الإنسانية إذا ساومتنا على قوميتنا!
أذكر في هذا الموقف حادثة طريفة أدبية تمثل تأثير القومية في الأفراد الذين كانوا يؤمنون بالدعوة الإنسانية. لقد كان العالم النقادة الفرنسي (تين) ذا ثقافة ألمانية صرفة. كان يعجب بألمانيا ويحبها حباً جماً ويراها له وطناً ثانياً بعد فرنسا. وكان يرى مع الفيلسوف (رينان) أن ألمانيا هي أم العقل والذكاء. وأن الألمان هم أساتذة العالم في العلوم والآداب والفلسفة، وهم أساتذة العقل الراهن. هبت حرب السبعين، وغمرت ويلاتها الفرنسيين. فضربت اعتقاد (تين) في الصميم، وكانت له يقظة قاسية مؤلمة، إذ وجد القول بأن العلم الإنساني هو كل شيء للإنسان قولاً كاذباً، وألفى أن الفن لا يحيا إذا كان الوطن يتمرغ في الشقاء، فأخذه الإشفاق على وطنه، وحمل بعدها حملات عنيفة على غطرسة العقل الألماني الإنساني، وقال:(إن زمان العلم الخالص الإنساني قد انتهى. . . والآن يجب قبل كل شيء أن نساعد فرنسا على أن تحيا حياة تنطبق على حياتها الماضية. . .)
ونحن في مرحلة شبيهة بهذه المرحلة، لا يجدر بنا في الوقت الذي تفتش فيه الأمم عن قوميتها، أن نضيع قوميتنا بحجة الإنسانية. وقد قدمنا للإنسانية تراثاً خالداً من الدين والفلسفة في سبيل الإنسانية. . . وكيف نطمع ونحن ضعفاء القومية أن نفيد الإنسانية؟ والأمة الضعيفة القومية لا تعطي نتاجاً!
أعطوني أمة ضعيفة القومية ذات نتاج خالد! أليس لنا في اليونان أمة العبقرية والفن مثل واضح على ذلك؟ لقد تحجرت مواهبها وعبقريتها منذ تلاشت قوميتها. وهل أعطى العرب نتاجهم الأدبي إلا يوم كانوا أقوياء؟ وأي نتاج لهم في عصر الضعف والتلاشي؟ وهل يدرس الطلاب من الأدب الغربي إلا أدب الأمم التي ثبتت قوميتها، وخفقت حريتها؟. . . وإذا كانت الثقافة أحلت لهذه الأمم أن تسخر ما لا يسخر للدعاية أفهل يلومنا أحد على أن نسخر هذا الشيء نفسه لغاية أسمى وأعلى، لغاية إحياء قومية نبيلة:(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). . . إني أخاف إذا غالينا في تجريد أدبنا من قوميتنا أن يقولوا: هذا أدب إنساني ولكن بلا وطن! وضعف القومية يقتل كل خاصة مبدعة في الشعوب. لقد عملنا عملنا الإنساني كأفراد فلنجرب أن نعمله كأمة!