فيهما ولا اضطراب. يقول ليبنتز إن هذا التوفيق بين استقلال الذرات واتساقها في نظام واحد أشبه شيء بجوقة من رجال الموسيقى. كل يقوم بدوره مستقلا، وقد أجلسوا بحيث لا يرى بعضهم بعضا بل ولا يسمعه، ومع ذلك فهم يسيرون في تناغم مستقيم، ما دام كل منهم يعزف وفق المذكرة الموسيقية، فإذا ما سمعهم مستمع في وقت واحد، لحظ في عزفهم تآلفا عجيبا) وبهذه النظرية نفسها قد عالج ليبنتز العلاقة بين العقل والمادة، أي بين الروح والجسد، فالروح يتبع قوانينه الخاصة والجسد كذلك يتبع ماله من قوانين دون أن يؤثر واحد في سير الآخر، فهما يتلاقيان في تناسق بلغ من الدقة حدا بعيدا يستحيل معه الخطأ، فكل خلجة عقلية يجاوبها وضع من الجسد كما لو كانت العلاقة بينهما علاقة العلة بالمعلول. ولا يمكن تعليل هذا الاتفاق المستمر بين العقل والجسم إلا بإحدى ثلاث، يسوق لها ليبنتز تشبيهه المشهور: فهما كساعتين تسيران معا في دقة تامة، ولا يكون ذلك إلا ١) أن يكون للساعتين آلة
واحدة تديرهما معا في آن واحد (٢) أو يكون ثمة شخص يعادل بينهما من آن إلى آن بحيث يوفق بين زمنيهما، (٣) أو قد تكون الساعتان صنعتا في دقة تامة يستحيل معها الخطأ.
فأما الغرض الأول فمردود لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعينه في وقت واحد، وأما الغرض الثاني فمردود كذلك لأنه يفرض تدخلا مستمرا في علاقة العقل والجسم، وأما ثالث الفروض فهو ما يراه ليبنتز جديرا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطر يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب، وهذا التآلف موجود منذ الأزل، وهو ما يسميه بنظرية التآلف الأزلي. ولكن إذا كانت كل ذرة مغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطل على العالم الخارجي كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربا من ضروب الاتصال أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديته؟ هذا تناقض ولا ريب، وأغلب الظن أن ليبنتز قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله جل وعلا فأنقذ الموقف بأن زعم أن الروح الإنساني لا يقف عند حد تصوير الكون وتمثيله في شخصه،