تكوين رأسه واصفرار لون شعره وزرقة عينيه، فدليل كاف على أنه ينتمي إلى (الشماليين) أي سكان شمال أوربا.
وكان لفريدريك أب قس ورث عنه نزعته للموسيقى وذكاءه المتقد وإحساسه المرهف وأعصابه الملتهبة. أما القوة فقد ورثها عن أمه التي أخذ عنها قوة الإرادة، والقدرة على العمل، والقوة الحيوية، وقوة مناعة جسمه ضد هجمات أعصابه الثائرة. أما الوعظ والدعاية لما يؤمن به فقد ورثه عن أبويه كليهما، ولذا كان حب الوعظ والإرشاد قوياً عنده إلى حد أنه كان يهيم بوقع الكلمة التي ينطق بها. وكان من اجتماع نزعته الإصلاحية إلى قوة إرادته وصدق حيويته لهيب من النار يسرى في كلماته فتهتدي به الناس وتطمئن إلى حرارته في جو إنعدمت فيه حرارة الإيمان.
وليس غريباً أن يكون هذا شأن نيتشه، فقد كان في صغره شعلة ذكاء تتقد منذ سني دراسته الأولى. فقد كتب مذكراته عام ١٨٥٨، ولما يبلغ الرابعة عشرة من عمره، بأسلوب واضح متزن يشف عن ذكاء مبكر، إذ قال:(أصبحت في الطور الشعري الثالث.) وكتب أيضاً: (يجب أن أتمرن على القريض أكثر من ذي قبل، وإن أمكن فسأنظم في كل ليلة قصيدة.) ومع كل ذلك لم تخلُ قصائده الأولى هذه من أبيات موسيقية أخاذة تحوي معاني مبتكرة. وفي سن الخامسة عشرة نظم قصيدته المعروفة باسم (بغير وطن) ذات النزعة الرومانتيكية. فالتف حوله الأدباء الناشئون وألف منهم جمعية أدبية أسماها (جرمانيا). وكان يأمل أن يتتلمذ في المستقبل على جين باول بعد أن مال إلى فنه كل الميل. ولكن غير واحد من أصدقائه نصحوه بقراءة (هيلدرين)(ونوفاليس) فقرأهما كما قرأ (شكسبير) و (ترسترام شاندي) وهو في سن الخامسة عشرة. وكتب إذ ذاك في مذكراته:(إنني أقيد كل فكرة طريفة؛ وقد اتضح لي أنني إلى ما قبل الآن كنت غير ملم بشيء من العلوم.)
ولم يكن شغف نيتشه بالأدب أكثر من شغفه بالموسيقى، وكان أحب الموسيقيين إليه (روبرت شومان) الرومانتيكي النزعة، ولكنه مال بعد ذلك إلى شوبان إذ قال عن موسيقاه إنها تمثل جمال ونبل الفكر كما تمثل المرح وعظمة الروح الإنسانية والشعور الفياض سواء بسواء) وفضلا عن ذلك فقد وضع نيتشه أيام صباه قطعاً موسيقية قال عنها بعد أن تقدم في السن: إن (نغماتها) تكاد تكون مطابقة لموضوعات مختلفة من بارسيفال