وكان قد تملكه بعض الوقت. وقد جر عليه تطرفه - وليس في ذلك ما يعيبه - قسوة القدرة وإعراض الناس عنه، ففي أواخر سنة ١٨٨٨ أصيب نيتشه بهزة عصبية شديدة، وبدأ جسمه بعد ذلك في الاضمحلال. ولكنه بقي حتى أواخر أيام حياته طيب القلب، شديد الصبر، كثير الأدب، مراعياً احساسات الناس كافة. وكان في سنة ١٨٨٨ قد خيل إليه أن لابد له من أن يبذل أقصى مجهود فكريي فجمع أشعاره التي أسماها (أغاني زرادشت)، ومنها قصيدة (غروب الشمس) الخالدة. ومن من الناس لا يمجد (زرادشت) أو (الإنسان الكامل) حين يذكر أسم نيتشه؟
وبقى نيتشه حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام ١٩٠٠ يقاسي آلام مرضه حتى وافته المنية في مدينة فيمار ولم يكن في نظر الناس حين أرتحل إلى العالم الآخر إلا أديباً غريب الأطوار والأفكار. أما اليوم فله شهرة عالمية كأديب وفيلسوف. وقد كان نيتشه شاعراً مجيداً ذا عقل وثاب وإحساس فياض عميق، في حين أن بقية الشعراء لم يكن لهم إلا مجرد (نزوات مضطربة) وما كان نيتشه ليهمه اصطلاح الناس على تمجيده أو الاعتراف بفنه، فقد قال:(إن الطيبة لن تعود طيبة إذا لاكها الجار في فمه) فكيف حال الطيبة إذا لاكتها الناس عامة؟.
وكذا مات نيتشه، ولكن ما انقضت بعض الأعوام على وفاته حتى أخذ الأدباء والنقاد يشعرون بجبروت فكره ونبل غرضه. وكم من زعماء الأمم يتطلعون اليوم إليه كرائد لهم، ويستمدون الوحي من تفكيره! وكفاه بذلك فخراً.