للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية، إذ كشفت الدراسات الحديثة عن أن للصين فلسفة عميقة مبتدعة جديرة بالاحترام يرجع تاريخها إلى عشرين قرناً قبل المسيح، وأنها استطاعت أن تلون الحياة العملية العامة للأمة جمعاء بلونها الراقي، وأنها استطاعت كذلك أن تحفظ الكيان الخلقي الكامل لهذه البلاد مدى أربعة آلاف سنة، بل إن بعض العلماء يعتقد أن الفضل في هذا التماسك الاجتماعي والمقاومة السياسية واحتفاظ الصين باستقلالها إلى الآن يرجع إلى تمسكها بالأخلاق العالية المسجلة في فلسفتها

على أن هذا لا يمنعنا من أن نعترف مع الأستاذ زانكير بأن الفلسفة الصينية لم تعرف علم النفس التجريبي على النحو الذي يدرس عليه الآن، وأن العقلية الصينية لم تعرف المناهج العلمية، بل وأنها لم تنجح تماماً في تأليف كتاب منظم متقن في علم المنطق وإن كان هذا كله يجب أن ينظر إليه بعين التحفظ والأحتياط، لأننا سنشير فيما بعد إلى المنطق الصيني، وسنبين بعض ما فيه من عمق وسمو كما أننا سنشير كذلك إلى ما لهم من مجهود لا بأس به في العلوم المختلفة الأخرى

غير أن أولئك العلماء الذين استهانوا بالفلسفة الصينية ورموها بالخلو من النظريات لهم في ذلك بعض العذر، وهو أنهم لاحظوا في جميع الأطوار التاريخية لهذه الأمة أن الفلسفة العملية هي التي تفوز بأهم الأدوار فخدعهم ذلك عن الفلسفة النظرية التي هي أساس كل هذه الأخلاق العملية. وفي الواقع أن من طلائع مميزات الأمة الصينية تحوُّل النظريات بسرعة إلى أخلاق عامة في الشعب كله، ولهذا قال (سوزوكي) الياباني ما نصه: (إذا كان الدين ممثلاً في اليهود، والتنسك في الهنود، والتفلسف في الإغريق، فإن الأخلاق هي الثقافة الروحية التي التقت في إمبراطورية الوسط بممثليها الحقيقيين وبنموها المنظم المحدود)

بلغت الأخلاق الصينية من السمو إلى حد أن يروي لنا الأستاذ (زانكير) أن المبشرين المسيحيين حين اتصلوا بالصينيين في القرن التاسع عشر ورأوا ما عندهم من أخلاق بهتوا خجلاً من عقيدتهم القديمة عن هذه الأمة ولم يجدوا لهم من هذه الورطة مخلصاً إلا أن يعلنوا أن الإله قد أوحى إلى الصينيين كما أوحى إلى الإسرائيليين، وأن (شانج - تي) ليس إلا الرب السماوي المذكور في الكتاب العبري المقدس، بل إن أحد (اليسوعيين) في القرن

<<  <  ج:
ص:  >  >>