أفصح عن مراده في أمته بغير لغته الوطنية. أو لهج لسانه من حين لآخر بكلمات أجنبية، أنه قد أصبح في منزلة القوي وأن له أن يتيه كبراً وخيلاء، ولم يدر أن سلوكه العملي الناشئ عن صفات نفسية خاصة به، وأن طريقه في التفكير الخاضع لبيئته وما ورثه في دمه عن أسلافه ينم عن أنه ما زال هو الضعيف، ولكنه تزيى بزي القوي فحسب.
وربما يكون الضعف هو السبب الرئيسي والعلة غير المباشرة لكثير من صور التقليد، ولكن البحث النفسي الحديث يتجنب الآن بقدر الإمكان استنتاج قوانين عامة لجملة من الظواهر النفسية - لأن ذلك قد مضت مدته بفقدان العلوم الطبيعية والرياضية نفوذها على العلوم العقلية، وتأثيرها في تكوين كليات لها عامة تشرح بها جزئيات متعددة - ويفتش لكل ظاهرة عن علتها الخاصة بها والمباشرة في تكوينها.
والتقليد الآن في مصر في أهم ناحيتين من نواحيها الثقافية والعقلية: في ناحيتي التعليم والتشريع، ظاهرة تغلب على نفسية الشعب، أو بعبارة أدق على رجاله المسئولين في توجيه سياسته العامة. وإذن لبحث هذه الصفة يجب استعراض المؤثرات التي أوجدتها في نفسية هؤلاء وتعهدتها إلى درجة النضوج. وأظن أننا إذا رجعنا ببصرنا إلى تاريخ مصر الحديثة في جيل سابق وجدنا تلك المؤثرات بادية في شيء واحد: في الابتعاد عن التربية الوطنية الذي كان نتيجة لخطة إحدى مدارس التعليم في مصر ولسياسة أخرى تعليمية كانت تهيمن على مدرسة ثانية منها.
فالتعليم في مصر ليس واحداً، والمدرسة التي تخرج منها الشعب متباينة النزعة مختلفة الغرض. فبينما نرى مدرسة وطنية، وهي الأزهر، تعتمد في تهذيب أبنائها على ما ورثته الأمة من ثقافة في صورتها التي احتفظت بها من عصور مضت، إذ بنا نرى مدرسة أخرى، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية، تلقن الناشئة المصرية مبادئ تنتهي بخلق أمم متعددة في أمة واحدة، وبفئات من الناس مختلفة لا تجمعهم وحدة في التفكير ولا وحدة في الغرض. وبينما نشاهد هذه وتلك إذا ببصرنا يقع مرة أخرى على مدرسة ثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، ليس بينها وبين اللتين قبلها من صلة إلا أنها ربما تكون أو تحاول أن تكون مزيجاً منهما، ولكنه مزيج لا ينتج عنصراً جديداً كما فقدت فيه كل من مادتيه خواصها.