للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ليس المقام مقام تأبين وتفجع على من يمثل هذا التمثال فإن صفحات تاريخ الأدب مليئة بكلمات أمراء البيان عمن خشع الغرب لبيانه الشرقي وما حلق فوقه من متقدميه ولا من معاصريه بيان. ولئن كان مأتم فوزي من أروع الأيام وأفجعها على الشرق العربي بأسره فإن يوم فوزي إنما هو اليوم الذي يرتفع فيه تمثال صفحة خالدة طبعت عليها مساوئ فترة الانتقال وفجائع طور التجاريب.

أي أخي فوزي! يا شاعر الأمة المشردة. إنني وأنا أنظر إلى ابتسامتك المرة وإشراق جبينك المتجهم اسمع صوتاً يقرع الفضاء من أصداء هذا الوادي مردداً قولك:

أنا الغريب فلا أهل ولا وطن ... إذا انتسبت أمام الناس وانتسبوا

ومن يكون غريباً في موطنه ... لا بدع إن أنكرته الأرض والشهب

ويليه، صوت آخر يتردد على ذلك الشاطئ الحزين صداه

قسما بأهلي لم أفارق عن رضى ... أهلي وهم ذخري وركن عمادي

لكن أنفت بأن أعيش بموطني ... عبداً وكنت به من الأسياد

أسمع هذا الإنشاد فيخيل إلي أن صيحات جيل كامل في أمة مروعة فقدت قوميتها فخسرت أوطانها

إن لخطرات الحظ تأثيرها على الأمم كما لها تأثيرها على الفرد؛ وليس للفرد كما ليس للمجموع أن يظفر من سلسلة الوقائع إلى مستقر يستحدثه فجأة لنفسه؛ غير أن هنالك قوة سمها الإرادة الجزئية إن شئت تتمرد على الانقياد لما يضير، فإذا هي تنبهت صمدت بوجه التيار بالمقاومة السلبية حتى يعبر الكاسح فتتمكن من استئناف سيرها نحو وجهتها، وإن هي استسلمت وجبنت فقدت الشعور بذاتها ومشت متطايرة مع العاصف ينثرها هباء على مراكضه. . إن هذه الأمة التي كونت شخصيتها من مبادئ واحدة في الأصل ومن ثقافة انطوت سريرتها عليها منذ أجيال، ومن بيان وعي علوم المتقدمين، وما قصر عن استيعاب علوم المتأخرين لا يستقيم لها أمر ولا يستعاد لها مجد ما لم تتوصل إلى إحياء حضارة تتوافق وما كمن فيها من فطرة وحوافز

لقد مرت بهذه الأمة أدوار من التاريخ قضت على استقلالها وحضارتها فذهبت قطعاناً مبددة تتراكض وراء كل ناعق يجزها ويحز رقابها، ولو أن العناية لم تستبق لنا في كل حقبة

<<  <  ج:
ص:  >  >>