(٤) الاستسلام لإحدى عاطفتي الحب والبغض، فذاك صديق المؤرخ أو سلف لصديقه توجب عليه المجاملة والإطراء المتبادل أن يخضع لمقتضيات هذه الصداقة فيحسن القبيح ويقبح الحسن ويعرف المجهول ويجهل المعروف، وبالعكس لو كان المترجم عدواً له أو سلفاً لعدو؛ وقد يكون الحامل على الحب أو البغض غير الصداقة والعداوة
(٥) الخوف من ذي نفوذ أو سلطان، فهو إذا تكلم بالحقيقة عذب وأهين فيتحاشا هذه الإهانة وذاك العذاب - إذ لم يكن من الكلام بد - بالتقية متأولا على أنها مذهب لكثير من طوائف المسلمين إن لم يكن ديناً فتديناً! وقد يستغني عن التأويل. وهذا السبب الخامس لم يكد يخلو منه أحد من مؤرخي المتقدمين والمتأخرين
(٦) الجبن الأدبي أو يسمونه بفقدان الشجاعة الأدبية، فهو إذا تكلم خاف ألا يقبل كلامه أو يتهم فيه بغرض، ومن خصائص هذا الجبان الأديب الخوف من النقد لحد الهلع، وإن تحمس يوماً واقتحم هذه الأوهام وكتب شيئاً لا يجرؤ أن يوقعه باسمه الصريح بل يكتفي بالرمز؛ وهذه العلة هي داء كثير من الثقات في هذا العصر لو تغلبوا عليها لأنتجوا وأفادوا
وأزيدك شيئاً وهو أني لا أرى علاجاً لهؤلاء أنفع من وجوب اعتبار الشروط المطلوبة في رواة الحديث من عدالة وضبط ومعرفة في مؤرخي الرجال، فكما أن المحدث لا تقبل روايته إذا فقد منه أحد الشروط الثلاثة فكذلك المترجم لا يلتفت لكلامه إلا إذا عرفت ثقته وعدالته ومعرفته بالرجل الذي يترجم له معرفة يثبت سندها ومصدرها؛ وبهذا فقط تسلم الأعراض من الأغراض وتحفظ الحقوق فلا يوضع رفيع ولا يرفع وضيع
لهذه الأسباب التي جعلتها كقواعد جامعة لما لم أذكر من العلل ولغيرها سقطت قيمة كثير من كتب التراجم قديماً وحديثً. وتمتاز الحديثة منها (والحمد لله الذي لا يحمد على شر سواه) بالتفنن في أساليب الطعن والغمز واللمز ببراعة لا يفطن لها الكثير من الناس إلا قارئ عنى بها عناية خاصة أو قارئ أتيحت له معرفة دخائل جامعيها ونواياهم. أضف إلى هذا ما فيها من تراجم قوم لم يعرفوا بين عشيرتهم حتى بالطلب قد أغدقوا عليهم من بحور العلم ما غمرهم ومن جبال السنة ما دك كواهلهم دكا، ومن صفات النبل والكرم ما أصبحوا به ملائكة تعوزهم الأجنحة إلا أن معرفة مرافقيهم بهم قصتها، ومن ضروب الإصلاح والإرشاد ما يشرحه العارفون بلغتهم على النقيض من ظواهر اللفظ والمعنى، وهنا يجمل