العربية: جاء مفتش اللغة الإنكليزية من داره التي لا تبعد عن المدرسة اكثر من خمسمائة متر ماشياً على رجليه، فلبث في المدرسة نحواً من نصف ساعة، ثم ذهب لشأنه فعلمت علم اليقين أنه قدم إلى الوزارة القائمة الآتية (مصروفات تفتيش):
فرش صاغ
٤٠ أجرة سيارة (من أقصى المدينة إلى المدرسة)
١٠ ثمن أوراق وأقلام للتفتيش
٣٠ ثمن غداء ومصروفات متفرقة
٨٠ المجموع
فاخذ ثمانين قرشاً (وهي اليوم اكثر من مائة فرنك) ولم ينفق منها فلساً واحداً
الوظيفة في بلادنا قد خرجت عن الأصل الذي قررناه في أول هذه المقالة، فلم تعد ضرورة حيوية ولم تعد غايتها المصلحة العامة، بل أصبحت باباً للكسب وطريقاً إلى المعيشة وأصبحت قبلة الناشئين وهدفهم، لا تخلو وظيفة إلا أقدم عليها المئات من الشباب المتعلمين ولو كانت وظيفة عامل بريد أو كاتب ديوان ولو كانوا ليسانسيين ودكاترة، وتوصلوا إلى رضا الرؤساء (وأكثرهم من بقايا العهد البائد) بشتى الوسائل الباطلة والطرق الدنسة الملتوية، ثم إذا فاز منهم من فاز ثابر على إطاعتهم لأن بقاءه معلق بهم ورقيه موقوف على رأيهم؛ وإذا كان هذا الفائز في الوظيفة شريفاً، أو كان على بقية من المبادئ التي تلقاها في المدرسة، واحب أن يعيش في الوظيفة بإخلاص وشرف واستقامة، ذاق الأمرين واصلاه الرؤساء حرباً حامية، حتى يخرج أو يخرج غير مودع ولا مأسوف عليه
ضاع الشرف واضمحلت الأخلاق ومات النبوغ فكم من نابغ موهوب وعبقري نادر دفن نبوغه وعبقريته في وظيفة خاملة. الوظيفة في بلادنا خصيمة النبوغ. هذا الرافعي الذي لم ينشأ في العربية في كل عصورها كاتب أبلغ منه عاش ومات كاتباً في محكمة صغيرة، وهؤلاء الجاهلون في أرفع وظائف المعارف، والظالمون في أعلى درجات القضاء. . .
إن مسألة الوظيفة عقبة من أشد العقبات في طريق هذه الشعوب العربية الناهضة، فيجب أن ينظر إليها ويبحث فيها، ويوليها الكتاب والمفكرون وأولوا الأمر والحكام الوطنيون أكبر العناية، ويحلونها من الاهتمام في أرفع مقام