اطراح المعتزلة لصاحبها ضرار لأنه وافق جهماً في نظريته الجديدة؛ ونرجح أن يكون الزمن الذي حدثت فيه النظرية هو المدة المحصورة بين وفاة الحسن البصري سنة ١١٠ وبين مقتل جهم سنة ١٣١. على أن هذا الزمن المفروض حري أن تحدث فيه النظريات العلمية لكثرة انتشار العلم والدرس مع ازدياد عدد العلماء وشدة تضارب الآراء والأهواء
(٤) في هذا الظرف الذي حدثت فيه نظرية جهم ظهرت آراء ومقالات غريبة لم يصرح بها المرتضى؛ غير أنه أضاف في عرض حديثه عن ضرار انه خلط تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم. ولم أجد مسوغا للمرتضى في عدم تصريحه بنوع هذه الآراء في حين أن صاحب الملل والنحل ذكر كثيراً منها. ولو أن المرتضى ذكر بعضها لوجدنا من مقدمته سلماً كاملاً للتطور الفكري. ونعود الآن إلى بقية أجزاء المقدمة، قال:
(ثم تكلم الناس بعد ذلك في الاستطاعة فيقال إن أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف السمني، وإنه أستزله إلى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه؛ ثم قال بذلك حسين النجار وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الله تعالى خلق فعل العبد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع، وإنما يضاف إليه لأنه فعله كما يضاف إليه لونه وحيويته، وهو قول جهم. الثاني أن الله تعالى خلق فعل العبد، وأن العبد فعله في استطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدم الفعل، وهو قول النجار وبشر المريسي ومحمد بن برغوث ويحيى بن كامل وغيرهم من متكلمي المجبرة نحو الشاعرة وغيرهم)
قبل تحليل هذا القسم نلفت نظر القارئ إلى كلمة المرتضي (مذاهب المجبرة) بدون أن يقرنها بكلمة القدرية، فهي وإن لم تدل على رجوعه عن رأيه في مرادفة الجبر والقدر ولكن يشم منها حدوث كلمة جبر ومجبرة، وأنها غلبت في نسبتها إلى جهم وجماعته بدلاً من لفظة القدر التي حاول أن يهرب عنها الفريقان المتطاحنان، ولو أردنا التماس سبب لغلبة جهم في هذا التملص من صفة (القدرية) ربما وجدناه في مطابقة فهم العامة لمعنى كلمة الجبر مع النظرية ولا سيما وإن جهماً ونظريته وأصحابه فرس أقحاح، فهم أحرى أن يتحاشوا ويعملوا على الخلاص من وصمة الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة)
ولنعد إلى بحثنا فقد استأنف المرتضى بحثه مراعياً تدرج الموضوعات بمقتضى تاريخها