للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كل هذه الأنظمة تعاونت وتضافرت على صيانة الحضارة في العصور الوسطى وخاصة المظلمة منها، لكنها كانت تتوخى دائماً إعلاء كلمة الجماعة واخفات صوت الفرد، فحالت بذلك دون تقدم الحضارة تقدماً حثيثاً، إذ كلما حاولت سفينة الحضارة الإقلاع، ألقت الجماعة مرساتها لتوقفها وتعيقها عن السير المطرد. والصراع بين الفرد والمجموع قائم على هذا الأساس. فالفرد يبتغي رفع المرساة وتحطيمها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بينا الجماعة تريد خلاف ذلك. ومهمة التربية والتعليم في كل عصر ومكان - كما بينا - التوفيق بينهما، وإصلاحهما إصلاحاً يكفل معه تقدم الحضارة. وسنتناول في هذا المقال الفروسة ونرى كيف كان مرساة للنظم والمبادئ الاجتماعية والأخلاقية، وما كان فضله على التربية خصوصاً

الفروسة، طبيعتها، نشأتها

الفروسة في أكمل وضع لها: نظام أو معهد اجتماعي لا ديني (من حيث نشأته)، ذو مبادئ، ومثل اجتماعية وأخلاقية عالية قائمة على قواعد وتقاليد رسمية راسخة. ومن شروط الانتظام في هذا السلك أن يكون المرء حر المولد، شريف المنبت، (أو يكون قد نال النبل من أحد الملوك)، يملك ضيعة، ويستطيع أن يعول نفراً من الضعفاء. ولم تمنح العضوية إلا لمن زاد عمره على الحادية والعشرين، اللهم إلا في آخر عهد هذا النظام، فقد كانت تمنح لأبناء العائلات المالكة الذين لم يبلغوا، أو تجاوزا السن القانونية لنيل هذه العضوية. وكان لابد لكل طالب من أن يقضي مدة معينة يجوز في خلالها بعض الامتحانات والمراسيم، ويتقن العلوم والفنون، ويتحلى بالسجايا التي يقتضيها شرف هذه المهنة. وقد اقتصرت العائلات النبيلة على هذا النوع من التربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، خصوصاً مع عدم توفر العلوم فيه كما سترى

كانت مبادئ الفروسية ومثلها العليا خليطاً مما ورثته عن النصرانية والحضارة الرومانية، واحتفظت به من عادات قبائل البربر الجرمانية وطباعها. وكان للفروسة صبغة عسكرية في القرون التي تلت سقوط الدولة الرومانية حتى القرن التاسع والعاشر للميلاد، فكل ملك أو بارون أو لورد أو نبيل، سافر أو ناضل على ظهر جواد، وكان له اتباع وحشم عُدَّ فارساً: فالفروسة والإقطاع هما في الحقيقة توأمان من حيث نشأتهما وشيوعهما. ولقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>