للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولابد لك إذا ما خلت المدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك إذ لا سبيل لك للاعتلاء إلا إذا اتجهت إليه وغلى ما وراءه وأنت تدوس على قلبك، وهكذا سيشفيك ما كان يحلو لديك

إن من أفرط في ادخار جهوده لا يلبث حتى يُبتلى بالخمول، تبارك كل جهد يشد العزم، فلا خير في أرض تدر اللبن والعسل؛ ومن يطمح إلى الإحاطة بأمور كثيرة فليتدرب على إرسال أبصاره إلى ما وراء حدود ذاته. وعلى كل متسلق للذرى أن يتعزز بمثل هذا الحزم إذ لا يسع من يتحرى الأمور متجسساً بفضوله إلا الوقوف عند أسهل الأفكار مثالا. وأنت يا زارا تطمح إلى الإحاطة بالعلل وإلى نفوذ خفايا الأمور، فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعالياً حتى ترى ما فيك من كواكب متصاغرة في كل أفق دون أفقك الرفيع

أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظراً إلى الأعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها، تلك هي آخر هضبة اطمح إلى بلوغ قمتها)

بهذا كان يناجي زارا نفسه وهو يصعد المرتفع معللا بالتعاليم الصارمة ما في قلبه من جراح

وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه فوقف مبهوتاً واستغرق في صمت طويل، وكانت السماء لا تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب بارداً على الأكمة

وهتف زارا حزيناً: (لقد تبينت ما قُدّر عليَّ، وهاأنذا مستعد للأقدام فهذه آخر عزلة أقتحمها

سأنحدر إليك أيها البحر المظلم المنبسط عند أقدامي، أنت الليالي المفعمة بالأحزان، أنت القضاء والقدر أيها الخضم البعيد

إنني أقصد أرفع جبالي مقتحما أبعد أسفاري فعلي إذاً أن أهبط إلى مهاوٍ أبعد في أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى الآن

عليَّ أن أذهب من الأسى إلى أغوار ما رسبت في مثلها من قبل فاصل إلى قرارة ما في الأحزان من ظلمات. ذلك ما قدّر عليَّ فأنا على أهبة لاقتحامه

لقد تساءلت فيما مضى عن منشأ الجبال فعرفت أخيراً أنها نهدت من البحار كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها، فما يبلغ الأعلى مقامه إلا لانطلاقه من المقام الأدنى)

هكذا تكلم زارا وهو ماثل على قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع، ولكنه ما بلغ الشاطئ ووقف بين نتوءات صخوره حتى حل عليه التعب وتزايدت أشواقه فقال:

<<  <  ج:
ص:  >  >>