ومن الغريب أن هذا الذوق العام الذي يستبد بي في مأكلي وملبسي ومسمعي وأدبي (كما رأيت) لا يستبد في هذه الأشياء، ولا يبدي أي سلطان على هذا النوع من الضعف، فهو لا يحتقر المرء لايقوّم الزهر، ولا يزدري من يسيء في المجتمعات العامة، ولكن يزدريني إذا خرجت من غير طربوش أو رباط رقبة في يوم حار، وسبب ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق، وفي دائرة ما يفهم، فهو إذا قوم مناظر الطبيعة عاقب من لم يتذوقها، وإذا أدرك جمال النظام وآداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء، ولما يصل إلى هذه الدرجة.
وبعد فشأن الذوق العام شأن الرأي العام كلاهما قابل للإصلاح والرقي، فالرأي العام ضعيف وسخيف إذا صدر عن أمة جاهلة، ويرقى الرأي العام بانتشار الثقافة وتعميم التربية، ويدل تاريخ كل أمة على أنها في أول أمرها لا يكون لها رأي عام، ثم تمنح أفراد قليلين أقوياء، زعماء مثقفين يوفقون في دعوتهم فيخلقون رأيا عاما، وأن هؤلاء، القادة يجب أن يُسبقوا بنوع من الثقافة العامة في الأمة حتى تستطيع أن تفهم قادتها وآراءهم، فيأتي هؤلاء القادة ويكوّنون إرادة عامة للأمة، ويؤلفون بين اتجاهاتها ويكونون منها وحدة. ومما نأسف له أن مجهودات كبيرة بذلت في ترقية الثقافة العقلية، وبرامج كثيرة وضعت في تعميم التربية العقلية وفي تكوين الرأي العام، ولكن لم توضع برامج لتربية الذوق العام، ولا بذل مجهود في ترقيته ورفع مستواه، فكانا لنا زعماء سياسيون وزعماء عقليون ولكن لم يكن لنا زعماء ذوقيون.
وفي ظني أن الذين يبحثون في ترقية الفنون عامة من موسيقى ونقش وتصوير وأدب مخطئون كل الخطأ، لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات، فليس الفنان في الأمة الا صدى لذوقها العام، فإذا صح الذوق صح الفن وإلا فلا ليس الفن والأدب من جنس النباتات التي تنبت من تلقاء نفسها. ولا هو مما يظهر مصادفة واتفاقا وإنما هو نتيجة لازمة لعوامل طبيعية سأحاول أن أبينها في مقال تال.