وهذا صحيح، فإن الأدب - في أعمق معانيه وأصدقها - تعبير عن الغرائز الحيوانية والبشرية؛ وقد بدأ الأدب منذ قال (الأديب الأول) ما قال (للأديبة الأولى) وكان من نتيجة اشتغالهما بالأدب واهتمامهما به، أن أخرجا مما كانا فيه، وهبطا إلى هذه الدنيا - مما يدل على أن شؤم الأدب على أصحابه بدأ منذ ذلك العهد - ثم أستمر بعدهما القتل والتخريب واتباع الغرائز وإطاعة الشهوات، وأستمر الأدب يصور ذلك كله، ويعبر عنه وينبه إليه، ويقويه في الأذهان، ويحييه في النفوس، ولولا العلم والعقل وسنه القوانين والأنظمة للجماعات، ووقفه الأفراد عند حدهم، وحده من شرتهم، لعم البلاء وعظم الخطب، ولفسدت الأرض ومن عليها!
يقول الأستاذ علي:(إن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً) بينما (لم يستغن أحد عن الأدب ولم يعش إلا به)
وهو في هذا القول أيضاً يقصد بالأدب المعنى الواسع الذي وضعه له، ويقصد بالعلم المعنى الضيق الذي ارتضاه له. . . ولقد بينا خطأ هذا القول، وبينا أن (الفصيلة البشرية) تتميز بالمحاكمة العقلية عن بقية الحيوانات، وأن من غير الممكن أن تتصور إنساناً بغيرها، أي بغير علم.
فإذا أردنا أن نجد، أي نقصد بالعلم والأدب معنيهما العاديين، وجدنا أن كثيراً جداً من الناس يستغنون عن الأدب، وليس لديهم خيال الأدباء، ولا سمو مشاعرهم ومثلهم، بينما نجد سوادهم الأعظم لا يستغنون عن العلم، ونتائجه، ومن وسائل المواصلات، إلى وسائل التسلية والترويح عن النفس، إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصر؛ كما أننا نجد هذا السواد الأعظم يفكرون تفكيراً علمياً. أجل، يفكرون كما يفكر ميليكان وجيمس جينس واينشتين. . . فان منطق العامة ومنطق العلماء واحد في (النوع) وإنما الاختلاف في (الدرجة). وهذه الحقيقة تخفي على الكثيرين، وإن كانت من بسائط علم المنطق الحديث، بل إن منطق العلماء موجود عند البشر جميعاً، لأن (الاستقراء) و (الاستنتاج) هما الميزتان اللتان تميزان العقل البشري عن سائر الحيوانات. والغسالة، كما يقول هكسلي، تستخدم في اكتشاف أن البقعة التي على الثوب هي بقعة حبر، عين المنطق الذي استخدم في اكتشاف