(. . . هو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم؛ كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من يصيب بأذى؛ ويتماشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء؛ ثم إن مسه الأذى الرقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكان ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا. . .! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جداً فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به. . .
(. . . وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض، ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة؛ وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. . .
(. . . فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا. . . وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقا لم ترقط نضارة البرسيم وألوان الربيع. . .)
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الناضج.
ولقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة ١٩١٧؛ وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى أخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة؛ والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضى فيما لا طاقة له به، إيماناً كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه إمارات