للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عمل الأستاذ زكي كما ترى عمل المعرب، وقد يحسب البعض أن التعريب أمر هين لا يكلف صاحبه عناء، ولا يكشف عن مقدرة أدبية؛ ولكن الذين مارسوا هذا العمل والذين يقدرون الأمور حق قدرها، يعرفون أنه من أشق الأعمال ومن أقطعها حجة في معرض التدليل على المقدرة والكفاية الثقافية، وحسبك أن تذكر ما بين اللغات من تباين وتفاوت في الأساليب والتراكيب والاصطلاحات والمجازات وغيرها من ضروب التعبير، وأن تذكر ما تفتقر إليه اللغة العربية من الألفاظ التي تقابل ما استحدث من الألفاظ العلمية في اللغات التي ننقل عنها، لتعلم مقدار الجهد الذي يعانيه المعرب.

وفوق ذلك فهناك ما هو أهم من اللغة في ذاتها؛ هناك أصول الترجمة الصحيحة وما تتطلب من شروط، وأهمها في رأيي الإلمام التام لا باللغتين فحسب، فذلك قد يتوفر للكثيرين، ولكن الإلمام التام بالفن الذي يترجم. وعندي أن الذي يتعرض لترجمة فن من الفنون لا يفهمه حق الفهم، إنما يكون كسالك الصحراء أضلته دروبها أو ذهب بلبه فضاؤها الشاسع وقد جهل صواها، وتاه عن مبدئها ومنتهاها. أما الذي يترجم عن فهم وخبرة ووثوق من الموضوع فإنه كالربان الماهر عرف وجهته واتخذ إليها سبيله؛ نعم يكون الفاهم الموضوع من فهمه هذا ما يعينه على التعبير الصحيح، وما يجعل اللغة ذاتها طيعة في يده مواتية له فلا يتعثر ولا يقف ولا تظهر في عمله الركة ولا يشوبه الإبهام والتناقض والاضطراب.

والأستاذ زكي كما عرفته من قرب وكما عاشرته وصاحبته فيلسوف بطبعه، لا ترى الفلسفة فيه أثراً من آثار الثقافة فحسب، بل هي مظهر من مظاهر الطبع قبل هذا. تحدثه في أي أمر فيفلسفه، إن صح هذا التعبير؛ لذلك كان شغفه بالفلسفة ومسائلها نتيجة ميل ذاتي، وذلك لعمري سبيل العلم الصحيح. والذين لا يعرفونه إلا فيما كتب يشهدون له بطول الباع في هذه الناحية. وهل نسينا فصوله الممتعة في الرسالة؟ وهل نسينا كتابيه اللذين أشترك في وضعهما مع الأستاذ العلامة أحمد أمين وهما (قصة الفلسفة اليونانية) و (قصة الفلسفة الحديثة)؟

إذا عرفت هذا عن زكي، وعرفت معه أنه متين في لغته، ضليع في الإنجليزية، أدركت مقدار نجاحه في ترجمة هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. الحق أني معجب بهذه الترجمة، محتكم فيما أقول إلى الذين قرءوا الكتاب فصولاً متتابعة في الرسالة قبل أن يجمع في

<<  <  ج:
ص:  >  >>