فهو شعر حي ناهض يدعو إلى الحياة والنهوض؛ أما شعر جرير والفرزدق والأخطل فهو شعر ميت جامد يدعو إلى الموت والجمود، ولم يكن الخضوع لزعامة هذا الشعر إلا أثراً من آثار الروح الشيطانية المستولية على النفوس منذ فقد في المسلمين الحكم الصالح، وأخذوا يعيشون عيشة آثمة جاهلية، يضيع فيها الحق، وينتصر عليها الباطل، وتنشر فيها أعلام الشر، وتطوى أعلام الخير، فأظلمت العقول، والتبست عليها الأمور، فصارت ترى الباطل حقاً، والشر خيراً، والإثم طاعة وبراً، وجمدت على هذا بطول الزمن حتى صارت حالها تدعو إلى اليأس في إصلاحها، وإزالة هذه الغشاوة عنها
على أني فيما أراه من زعامة الكميت على شعراء عصره أذهب في هذا مذهب بعض العلماء والشعراء كانوا يتعصبون له ويقدمونه في الشعر على غيره من الشعراء جميعاً. قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا احمد بن بكير الأسدي، قال حدثنا احمد بن أنس السلامي الأسدي، قال سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين
وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال حدثني احمد بن بكير، قال حدثني محمد بن أنس الأسدي السلامي، قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له: إني قد قلت شيئاً فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فانشده قوله:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعِباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولكن إلى أهل الفضائل والتُّقَى ... وخير بني حوَّاَء والخير يُطْلَبُ
فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
وفي رواية أخرى عن محمد بن علي النوفلي، قال سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن