للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وما هي إلا فترة من الزمن حتى توفيت اليصابات، فأخذ الأدباء عامة، والشعراء خاصة، ينحتون سبلهم الوعرة في صخر السياسة الأصم بكل عناء وجهد، إذ كان موتها كالريح الهادئة أذكت سعير تلك النار المذهبية الخامدة، فعادت النفوس إلى شنشنتها القديمة من التخاذل والانقسام الديني. والتف الأدباء ثانية، كل حول بطانة خاصة، يناصرها في الجهر والخفاء، ويذود عنها بلسانه وقلمه، وإذ كان الدين علة هذا الانقسام وسبب تحزب هذه الأحزاب، فقد كان نتاج الأدباء إذ ذاك، متسماً بالميزات الدينية، والمظاهر الحزبية. وخير من نلتمس هاتين الظاهرتين بوضوح وجلاء في آثاره (جون ملتون) وهو الذي سنعرض لدراسته في هذه الكلمة العجلى

شخصيته وحياته

لملتون شخصية فذة محاطة بستر كثيف من الغموض والإبهام، ليس من الهين علينا خرقه؛ يدل على ذلك: تشعب الأحكام فيه، وتباين وجهات النظر إليه، وتناصر الآراء عليه. فبينا نرى المعجبين بسمو شخصيته، والمفتونين بسحر شاعريته، يوغلون في تقديسه وتبجيله، ويبوؤونه وشكسبير سناماً واحداً من الشهرة والعظمة ولا يرون (لفردوسه) في الشعر مثيلاً إلا بالرجوع إلى الإلياذة والأوذيسة - إذ بالكثيرين من خصومه يجردونه من جميع مواهب الشاعرية السامية، ويجهدون الفكر في تسقط سقطاته، وتقصي هفواته، والإحاطة بكل ما من شأنه أن ينتقص من شاعريته وينال من شخصيته. أما الفريق الأول فزعيمهم (وليم هزلت)، وأما الفريق الثاني فعلى رأسهم (جونسون)؛ ولا تظهر الحقيقة بين حالتي الإغراق في الإعجاب، والتحذلق في التغرض إلا مجسمة مكبرة، ومشوهة ملفقة، فلا عجب إذا قلنا إن ملتون كان ولم يزل غامض الشخصية، مكتوم الطوية. ونحن إذ نعرض له بمثل هذه الكلمة العجلى، فلسنا ندعي أن فيها فصل الخطاب الذي لا يرد، ولا التوفيق بين مختلف هذه الأقوال المتبلبلة والأحكام المتشعبة، وإنما نريد توجيه اهتمام الناقدين، وجهود الباحثين إليه، وعرض مختلف المقالات فيه، تاركين - ما أمكن - للقارئ الكريم الحرية في إمازة غثِّها من سمينها

ولد ملتون في (برودستريت) بلندن، وكان والده كاتباً؛ وإذ كان من أهل اليسر والرخاء فقد كان شديد الرغبة في تعليمه تعليماً جامعياً عالياً. ولقد كانت طفولته النادرة تنبئ بما سيكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>