له من المجد المخبوء في جوف المستقبل، وليس أدل على طموحه وعبقريته وتحفزه للوثوب إلى قمة المجد من تلك المقطوعات الشعرية الجميلة التي نظمها وهو لا يزال بعد في ربيع صباه، تائهاً بكبرياء فتونه
كان ملتون طويل القامة، ساهمَ الوجه، شتيت الثغر، أبلج الحاجبين، ذا عينين نجلاوين، أشم الأنف، سخامي الشعر رجلَه، مليح الفم، معتدل الأعضاء، وكان (كما يروى عنه) بارع الجمال، تعشق منظره العين، وترتاح لحديثه النفس، وهو - إلى جانب ذلك كله، مزهوّ بنفسه معجب بخلقه، ومعتد بذكائه، تشهد بذلك آثاره العديدة، وأساليبه الشعرية المستعصية؛ وما أسلوب الشاعر في قصيدته إلا صورة لطبعه، ومرآة لأخلاقه
مكث ملتون في بيت والده في (هارتون) حتى منتصف العقد الثاني من عمره، حيث عاش تحت كنفه عيشة مترفة رخية، لا ترنق صفوها الأكدار والأحزان، ولا تعبث بهنائها الهموم والأشجان، فشب محباً للحرية، وما من شيء يضع في جذوة نفسه المتوقدة، أو يقل من شباة عزيمته المتحفزة، وإذ ليس من شاغل يشغله بأمور عيشه، فقد كان منصرفاً إلى افتعال الشعر والعبث به، وإلى احتذاء أساليب أفذاذ الشعراء في القريض. وفي عام ١٦٢٤ أدخله والده مدرسة في كمبردج، فأقبل على الدرس لا يلوي عنه إلا حين يجهده الفكر، فنال بذلك استحسان معلميه ومديح عارفيه، إذ بزّ جميع أقرانه، واشتهر بين سائر لداته بذكائه اللامع، وفطنته المتوقدة. وفي عام ١٦٣٢ أنهى علومه الجامعية ونال درجة السامية فغادر كمبردج راجعاً إلى بيته في هارتون، حيث أكب على مطالعة الآداب الكلاسيكية مدة خمس سنوات تمكن في خلالها من الإحاطة بجميع ما فيها من رائع النثر وجيد الشعر. أما اللغة الإنكليزية، فقد بلغ اطلاعه عليها حدّ الإحاطة بجميع أوابدها المستعصية. وليس أدل على ذلك من مطالعة ملحمته الشهيرة المعروفة (بالفردوس المفقود) إذ تحتاج في كل صفحة إلى الاستعانة بالمعجم عشرات المرات
وبعد أن قضى في هارتون خمس سنوات في الجد والمطالعة، أخذ يطوف في أنحاء أوربا، ويتنقل بين مدنها العامرة وعواصمها الزاهرة، فتلقحت بذلك عبقريته بعناصر أدبية جديدة، وتجلت مواهبه عن جراثيم شعرية سامية، لطفت من عرام نفسه، وليّنت شيئاً من حرونة طبعه، وزادت في قيمة إنتاجه. ففي عام ١٦٣٨ ذهب إلى إيطالية، وكانت إذ ذاك كعبة