الأدب، ومثابة الفن، وقبلة الشعراء والمتأدبين، يحجون إليها في كل عام ليردوا شرعة آدابها الرائعة، وليروِّحوا عن أنفسهم من عنائها، وذلك بالتمتع بسمائها الصافية، وأشجارها الباسقة، ومناظرها المتناسقة. وقد زار من مدن إيطالية فلورنسة، واجتمع فيها غير مرة بأعظم علمائها وهو غاليلو، ومنها عرج على رومة وهي العاصمة، والمثابة العزيزة لسائر أنواع الفن؛ ثم سار منها إلى نابولي، وهناك قرع سمعه نبأ الحروب الداخلية التي شبت في إنكلترا عن اصطدام حق الملوك الإلهي برغبة الشعب الملحة في الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، ولهذا فإنه لم يتم رحلته بل رجع إلى وطنه وهو يقول: إنه لمن المزري بالرجل أن ينشد الراحة في السفر، بينما مواطنوه يجالدون في سبيل حريتهم
ملتون والسياسة
وبرجوع ملتون من رحلته تبتدئ حياته السياسية، وهي دور مليء بالجهود الجبارة والأحداث الخطيرة؛ ولئن كان إذ ذاك مأخوذاً بنزق الشباب وتهور العاطفة إلا أنه أظهر في ميدان السياسة من الحنكة والدهاء والمرونة الدبلوماسية ما لا طاقة على مثله إلا لذوي النبوغ والعبقرية. كان حبل السياسة إذ ذاك مضطرباً بين حق الملوك الإلهي وبين ديمقراطية الشعب؛ وأحياناً بين البروتستنتية المصلحة، والكاثوليكية المبالغة في المحافظة على تقاليدها - ولو بليت - وكان ملتون خصم الملكية اللدود، وعدو البابوية الأزرق، فلا عجب إذا انهال عليهما بكثير من الامتهان والزراية، أو تسقط لهما كل ما من شأنه أن يحط من جلالهما أو ينال من عظمتهما
لقد ناهض الملكية كثيراً، وقاومها مقاومة غماء الجبين، حتى أنه لم يدع سانحة تمر إلا اهتبلها مندداً بعيوبها ومثالبها، شاهراً ظلمها ومساوئها؛ كما ناصر الطهريين كثيراً في تقويض دعائم الكاثوليكية. والطهريون في ثورتهم على الكاثوليكية ومن ورائها الملكية، أشبه ما يكونون في التاريخ العربي بالخوارج في ثورتهم على العلويين أولاً والأمويين ثانياً؛ ووجه الشبه بينهما اختلاط الدين بالسياسة في مبادئهما. وما مبادئ الطهريين التي هبوا متشمرين للنضال السياسي في تحقيقها، إلا صورة من المبادئ الوهابية في جزيرة العرب. ولقد كانت الدعوة الطهرية في بادئ أمرها دينية محضة، أي كدعوة الخوارج إبان خروجهم على عليّ، ولكنها - كمثيلتها - لم تلبث أمام أرستقراطية الملوك أن تنكرت لهم،