قال الجني:(إن ما تراه إنما يمثل الحسد والطمع والوساوس والأوهام واليأس والحب وغيرها من الهموم والعواطف التي تحيط بحياة الإنسان)
وهنا تنهدت تنهداً عميقاً وقلت:(وا أسفاه! إنما خلق الإنسان عبثاً، فهو فريسة للشقاء والفناء يذوق العذاب في حياته ثم لا يلبث أن يبتلعه الموت)
وتالله لقد أشفق عليّ الجني إذ سمعني أنطق بهذا وأمرني أن أحول بصري عن هذا المنظر الذي يثير الشجن وخاطبني قائلاً:(كفى نظراً إلى الإنسان في حياته الأولى إذ يأخذ أهبته إلى حياة الخلود وانظر إلى هذا الضباب الذي يحمل إليه الموج هؤلاء الذين يسقطون في اليم)
فحولت نظري كما أمرت، ولست أدري هل زاد ذلك الجني قوة إبصاري أم هل أزال بسحره جزءاً من ذلك الضباب الذي كان أكثف من أن تخترقه العين، فقد رأيت الوادي وقد فتح من نهايته وتكشف عن محيط واسع تتوسطه صخرة فتقسمه قسمين متساويين؛ ولقد تجمعت السحب فوق أحد هذين القسمين فلم أر فيه شيئاً، ولكني رأيت في الآخر محيطاً واسعاً تتناثر فيه طائفة من الجزر لا عداد لها؛ وكان سطح تلك الجزر مغطى بأشجار الفواكه والزهور تتخللها غدران صغيرة عديدة، واستطعت أن أرى أناساً يلبسون فخم الثياب وتكلل هاماتهم الزهور وهم يمشون بين الأشجار أو يجلسون حول النافورات أو يضطجعون على سرر من الزهر، واستطعت أيضاً أن أسمع ترنم الطيور الشادية وخرير المياه المتدفقة مختلطة بأصوات الناس وأنغام الموسيقى
ولشد ما أبهج نفسي أن رأيت ذلك المنظر الرائع وتمنيت لو أتيح لي جناحا نسر فأطير إلى هذا المكان السعيد، ولكن الجني أفهمني أن لا سبيل إليه إلا سبيل الموت؛ ثم خاطبني قائلاً (إن الجزر الخضراء التي تراها أمامك والتي تغطي سطح البحر على مد البصر أكثر عدداً من الرمال التي تغطي شاطئ ذلك البحر، ويوجد وراء هذه الجزر التي تراها أعداد أخرى لا يصل إليها نظرك ولا يمكن أن يتسع لها خيالك، وتلك هي مساكن الصالحين بعد الموت، وهم يحلون بها كل حسب درجة صلاحه، وفيها من ألوان النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. أو ليست تلك الجنان يا مرزا جديرة بأن يسعى الإنسان إليها؟ وهل تكون الحياة