الأدباء وكعبة رجاء الشعراء، يملأ أفواههم بالنضار، فيملئون أرجاء ملكه بروائع الأشعار، ويرفع أقدارهم بمنحه، فيرفعون عقائرهم بمدحه، وليس ذلك من مثله بمستغرب، فإن صلته بهم وشيجة فهو أديب مجيد وشاعر رقيق تهزه الأريحية وتتملكه موسيقى الشعر، فيسح عليهم وسميه وتهمي ديمه، ولأنه رأى أن يتشبه بعظماء الخلفاء ممن قربوا الشعراء وأدنوا مجالس الأدباء والعلماء كعبد الملك والرشيد والمأمون فغمرهم بلجينه ليروي منبت عزهم ومعين شعرهم ومهبط وحيهم وسماء فيضهم، ولأن دولة الأدب سناد قوي لدولة السياسة وعماد حصين لرجالها يذيعون حسناتها ويذودون عن رجالاتها، فجمع حوله من فحول الشعراء من لم يجتمع مثله لأمير أو خليفة قبله؛ فالمتنبي وأبو فراس الحمداني، والصابي والموصلي والببغاء والوأواء وغير أولئك وهؤلاء جعلهم في حياطته ينشدون محامده ويدبجون مدائحه، ولا يعرف تاريخ الأدب ممدحاً مدح بعشرة آلاف بيت من عيون الشعر سوى سيف الدولة. قال الثعالبي في يتيمته في ترجمة سيف الدولة:
(كان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت)
ولأن سيف الدولة كان أرفع أمراء الدولة قدراً وأوسعهم مُلكاً وأقواهم سلطاناً هرع إليه الشعراء وكان زعيمهم من يصل سببه بأسبابه
لذلك ولغيره سار أبو الفرج في ركابه فعاش طوال عمره وفياً له ولابنه من بعده، فمدائحه فيض قلبه ونبعة حبه لا رغبة في ولاية، ولا خوفاً من وشاية، ومتى كان الشعر باعثه الشعور ومصدره الوجدان، بلغ أقصى الجودة والإحسان؛ ولاشك أن اللهى تفتح اللهاة. قيل إن سيف الدولة ضرب دنانير للصلاة عليها اسمه ورسمه وأمر عقب ضربها بعشرة منها لأبي الفرج فانطلق منشداً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين الشعور والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى، فهو لهذا قمين بالوفاء له لم يتغير عن وده في قربه أو بعده، ولكن هذا لم يمنعه أن يمدح غيره من لداته لا من عداته، ولعل هذا يرسل إلينا قبساً من أخلاقه