لقد مهد جونسون لرأيه في ملتون بما قرره (بوصو) عن الشاعر المجيد إذ يقول: (الشاعر الفذ المجيد هو الذي ينظم قصيدته وينشرها لغاية سامية ينشدها ومثل عليا يتطلبها، وتكون الحقيقة فيها هي بيت القصيد بل أسها الذي تقوم عليه؛ وما الخيال بجانبها إلا أداة طيعة يمهد بتلفيقه سبل الوصول إلى غايته المنشودة ومُثُله العليا المقصودة)، ثم جعل من هذه الفقرة الموجزة دستوراً للنقد ومحكاً للشعر يعرف بها غثُّ القصائد من سمينها - ولو إلى حد - وأخيراً قال: لقد ألف ملتون ملحمة الفردوس المفقود ليمهد للدين سبله الوعرة التي ضلت فيها عديد البطانات وليدحرج من هذه السبل تلك الصخرة الناشزة التي تحطمت عليها مختلف العقائد، وتنكرت أمامها أكثر الحقائق؛ ولعله لم يكن له من غاية أخرى سوى نظم الحقائق الدينية، ونقلها إلى الغير عن طريق القلب لا العقل، وبصورة لا أثر فيها البتة لالتواء اللاهوت وإبهامه، ولتعسف المنطق واحتمال تأويلاته، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، إذ جمح به الخيال حتى أخرجه عن دائرة الحقيقة، وشردت به الشاعرية المتوثبة حتى أبعدته عن منطقة المعقولات؛ فجميع أغراضه متنكرة كأنها لغز غامض، وتعابيره ملتوية كأنه يقول شيئاً ويريد غيره، وصوره شائهة حتى لكأنها من تلفيق الخيال المحض الذي لا حقيقة له في الوجود. وبالجملة فإنه ليس فيها من أثر لما يريد خلا ما كان من بعض القوافي الممقوتة المصطنعة، والألفاظ المزركشة الآبدة، والتعابير المستعصية الغامضة، التي يند عنها الطبع وينشز منها الذوق
رأي ماكولي
الفرق بين أشعار ملتون ودانتي كالفرق بين الكتابة الهيروغليفية المصرية والكتبة التصويرية المكسيكية؛ فبينا يصور الثاني احساساته صورة لفظية كاملة، وينفض عليك عواطفه كما جاشت في صدره واعتلجت في قلبه، إذ بالأول لا يزيد في وصفه على الإشارة الغامضة، ولا في تصويره عن الصورة المبهمة للشيء - أي المسودة - ذلك يصف الأشياء بجزئياتها، وهذا يحيطها بستر كثيف من التورية البعيدة، والاستعارة الدقيقة، التي لا تظهر معها إلا بعد إعمال الفكر وكد الخاطر. وأكاد أجزم جزم اليقين أن ليس بين