للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأدباء من قرأ ملحمة الفردوس المفقود فعلقت شحنتها بشغاف قلبه، أو هزت نبراته وتراً من أوتار حسه. وعندي أنها ليست في الشعر إلا كالأحاجي في اللغة، ولولا ثوب الشهرة الفضفاض الذي يضفيه الأدباء على ملتون في غير استحقاق لكانت ملحمته هذه صفراً على هامش الأدب؟؟!

رأي هزلت

لقد كان شكسبير يعنى بنقد المجتمع وسوءاته أكثر من اعتنائه بنقد الديانات وطوائفها، وكان أيضاً ينظم الشعر بدافع الفطرة الشعرية الكامنة في نفسه لا بحافز الشهرة الذاتية، ولهذا كان مغايراً لملتون كل المغايرة؛ وذلك لأن ملتون كان مصاباً بسعار الشهرة، وشديد التمسك والتعصب لمبادئه الطهرية الدينية. لقد كان كلاهما شاعراً فذاً، إلا أنه بينما يسير الأول - شكسبير - وراء خياله وعاطفته، إذ بالثاني - ملتون - يُسيّر خياله وعاطفته وفق إرادته؛ فعاطفة الأول هي التي تدفعه إلى قرض الشعر، بينا إرادة الثاني هي التي تستكره خياله على النظم؛ ذاك تتسم أشعاره بعفو الخاطر وبداهة الفطرة وتوقد العاطفة، وهذا تتسم قصائده بجهد الفكر، وغزارة المعرفة، ومسحة العقل، وتصنع الخيال، وبرود العاطفة؛ ذاك تتسم أشعاره بحرارة القلب الملتهبة، وهذا بغزارة العقل الرائعة

لقد كان ملتون محباً للوحدة، على حين كان شكسبير مغرماً بالمجتمعات الزحمة، ولذا فبينا يصور الأول - على العموم - نفسه بأشعاره، إذ بأشعار الثاني صورة جلية لمحيطه، ومرآة مجلوة تنعكس عنها مرئيات بيئته. كان ملتون مشغوفاً بالدرس والمطالعة، بينا كان شكسبير لا يجد اللذة والراحة إلا في مطاوي الطبيعة ومناجاة أسرارها ومحاكاة مرئياتها. ذاك - أي ملتون - يمثل بأشعاره قوة العقل وسلطان الإرادة، وهذا يمثل حرارة العاطفة وسلطان القلب

على أنه ليس في هذا ما يمنعنا من أن ننظر إلى ملحمة الفردوس المفقود نظرنا إلى الإلياذة والأوديسة - أو القدس المحررة - لتاجور؛ ذلك لأنها وإن كانت تتسم بقوة العقل وجبروته إلا أن فيها من حرارة العاطفة ما ينماث له القلب، ويعتلج له الصدر. ولئن دقتْ تعابيره، والتوت أغراضه، وسما أسلوبه في بعض المواضع، فما ذاك إلا لسمو الفكرة التي يصورها ودقة التعبير عنها ولأنه يخاطب بأشعاره الخاصة لا العامة

<<  <  ج:
ص:  >  >>