للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومع أن الواقع يؤيد ما يقول ويلز فإننا نحب أن نحسب للمائتين والخمسين سنة الأخيرة حساباً خاصاً؛ فقد خطت فيها الحضارة البشرية خطوات إن تكن راجفة فإنها واعية؛ وإن تكن في بعض صفحاتها مخزية، فإنها في بعضها لامعة مشرقة. فقد رافق هذه المدنية متاعب وآثام نحن نعاني اليوم أشد أدوارها مرارة، ولكن المؤكد لدى التدقيق هو أن هذه المتاعب ستزول إذ تمحوها الأفكار البشرية العالية يوم تصفو المدنية نفسها للنوع الإنساني خالصة من كدرها وويلها. والنظر في هذه المتاعب لا يهمنا في بحثنا الحاضر كذلك، وإنما يهمنا هنا إزالة الريب الذي يحدثه بعض الكتاب إذ يقولون إن المدنية الحاضرة لم تكن أشمل المدنيات وأرقاها وأبعدها تمثيلاً لاتجاه التطور الإنساني في معارج التقدم

فحساب الـ٢٥٠ سنة التي نمت فيها هذه المدنية بالنسبة إلى ربع المليون كحساب سنة في الألف. فما الذي ضيع على تاريخ البشر هذه السنين كلها فجعلها هباء أو كالهباء؟

إن السر في ذلك هو (الطريقة العلمية) فهي طابع المدنية الحاضرة والعامل الأساسي في سرعة خطاها وسعتها

فما هي هذه (الطريقة العلمية)، وكيف أدت إلى إسراع خطوات النهضة الحاضرة، وكيف يمكن أن نفيد منها في حياتنا الاجتماعية والسياسية اليومية؟

كيف كان الناس يفكرون؟

كان الناس من قبل يؤمنون بالأرواح يصورونها لأنفسهم، ويثقون بالأذكياء منهم (العلماء) ثقة عمياء. فقد كفى أن يقول أرسطو أن الهواء عديم الوزن حتى مضى قوله هذا صحيحاً دون ريب قروناً عديدة. وقد كان يكفي هوميروس أن يقول إن الأرض مستوى مستدير حتى يؤمن الناس بقوله دون تحقيق أو يعارضوه دون تحقيق. لم تكن نظرة الناس قائمة على التجربة والاختبار؛ ومع أن النهضة العربية كانت أحدث النهضات ومن أبعدها قياماً على البحث والتحقيق، فقد تخللها جدل غيبي عابث كثير وإيمان أعمى كثير. فإذا قال القزويني إن الهواء ينقلب ماء إذا برد كان على الناس أن يصدقوه، لأنه يؤكد أنه ما افترى شيئاً مما أورد في (عجائب المخلوقات)

فإذا كان الذي يقرر الحقائق العلمية لا يسأل عن براهين وأدلة، راده الغرور أكثر الأمر، وجال ذهنه في المغيبات والمعميات يخترع للناس ويضع. وإذا كان من حق كل متكلم أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>