وإذن فاعتداده بنفسه، وعرفانه قدرها، هو الذي حدا به إلى الترفع عن الهجاء. ولقد كان أبياً عزيز النفس لا يتحمل منة ولا يستكين عن ذلة ويدعو إلى القناعة شأن شعراء الزهد في عصره:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... عِلة في عتبنا على الزمن
ومع أن هذا الشعر قد يكون صادراً للحكمة وإرسال الأمثال فإنه يدلنا على صفاته ويشي إلينا ببعض خلاله. كذلك لم يكن من الرقعاء الماجنين أو الخلعاء المستهترين، وإن هو قد ألم في صدر شبابه بما تدعو إليه نزوات الشباب، وأتى في باكورة صباه ما يصبو إليه من لا يزال غض الإهاب، لكنه مع هذا كان عنيف اللسان شريف البيان، تقرأ حوادثه الكاعب الغانية والشمطاء الفانية فلا تجد الأولى ما يريق حياءها أو يبعث الخجل إلى وجهها، وإن وجدت الأخرى ما يهيج أشجانها ويتصباها، ويبعث فيها ذكريات أيام شبابها وصباها؛ وهذه قصة تريك حقيقة ما نقول:
تخلّف عن الغزو مع سيف الدولة بدمشق، وكانت سنه قرابة العشرين؛ ويظهر أنه أحس وخز الضمير وتأنيب الشهامة، فأخذ يتسلى عن تخلفه بارتياد الحدائق والرياض، ويتعزى عن اتهامه بالقعود بالقصف والمجون، فقصد إلى دير مران، واختار له من رهبانه سميراً هو أقلهم في الرهبنة حظاً، وأديرت بينهما الراح، وإذا راهب آخر يوحي إليه بطرفه يستقدمه إليه، فانتحيا ناحية، فسلمه رقعة فضها فإذا هي دعوة إلى زيارة أرسلها صاحبها في عبارة رقيقة وأبيات رشيقة ختمها بهذين البيتين:
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشِن الظنَّ فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب
فصحا من سكره، وتخيل الداعي في نثره وشعره ملكاً كريماً، أو عاشقاً نبيلا، فكان جوابه على دعوته ما ذكره في وصفه لتلك الحادثة إذ يقول:
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلا وهمة ... مُحَلَّى السجايا بالطلاقة والبشر