مناسباته ما يروق غير مدقق في الاختيار ولا متحر الجودة؛ لأني أرى شعره طبقة واحدة، ووحدة غير متنوعة، لأنه نبعة صادقة. فاسمعه يصف ولهه بحبه، وهيامه بمالك لبه، فهو يرى أن قربه وبعده يستويان عنده لأن الوصل لا يطفئ غلة ولا يبرئ علة، والبعد لا يزيد تأجج شوقه، ولا يؤرث نار وجده، فقد بلغ كلاهما النهاية وأوفيا على الغاية، وهي مبالغة طريفة ساقها في لفظ ساحر قال:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقد طُرق هذا المعنى من قبله، فلعله ألم به فسطا عليه، أو جاء من توافق الخواطر، وكلاهما جائز. وهذان بيتان في هذا المعنى لعليه بنت المهدي قالت:
إذا كان لا يسليك عمن تحبه ... تناء ولا يشفيك طول تلاقي
فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
ولكنه تخلف عن علية فقد بلغت غرضها في بيت، أما هو فاحتاج بيته الأول إلى بيت ثان يوضح غرضه ويبين قصده. وهذا معنى آخر من المعاني المطروقة قبله لم يأخذه كما سبق إليه بل جود فيه وحسن حتى ليخاله القارئ معناه المبتكر، قال:
من ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام:
ومضمخ بالمسك في وجناته ... حسن الشمائل ساحر الألفاظ
أبدا ترى الآثار في وجناته ... مما يجرحها من الألحاظ
وتراه سائر دهره متبسماً ... فإذا رآني مرّ كالمغتاظ
في القلب مني والجوانح والحشا ... من حبه حر كحر شواظ
وقد زاد الببغاء على معنى أبي تمام أن إغضاءه لسببين: أولهما هيبته وجلالته، وثانيهما خشيته أن يؤثر طرفه في وجنته. ولعله مما يشين المحبوب أن يرى دائماً مجرح الوجنات مخدد الخدود من تلك الألحاظ اللواحظ والعيون النواظر، وأحسب أنه أخذ معنى أبي تمام