للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لم تكن (هي) أولى حبائبه ولكنها آخر من أحب؛ عرفها وقد تخطى الشباب وخلّف وراءه أربعين سنة ونيفا حافلة بأيام الهناءة مشرقة بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عُمرُ غلام يخطو إلى الشباب. . .

سعى إلى مجلسها يوم (الثلاثاء) سعي الخلي إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقالة النفس؛ ومجلسها في كل (ثلاثاء) هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء؛ وجلس إليها ساعة، وتحدث إليها وتحدثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدث في نفسه. ولمسه الحب لمسة ساحر جعلت في لسانه حديثاً ولعينيه حديثاً. وطال انفرادها به عن ضيوفها؛ فما تركته إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه. . . وقامت تودعه إلى الباب وهي تقول: (متى تكون سعادتي بالزيارة الثانية؟) فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد. . .!

ووقع من نفسها كما وقعت من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد؛ ومحت صورتها من ماضيه كل ما كان من أيامه وكل من عرف، لتملأ هي نفسه بروعتها ودلالها وسحرها؛ وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مُصْيَفٍ مشغلةً في الليل والنهار

وكان الرافعي أول من يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر من ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبت إليه على أن يكون له عوض مما فاته يومٌ وحده. . .

كان يحبها حباً عنيفاً جارفاً لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحسّ وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه وتصطرع خواطره ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .

بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعره وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعراً وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتاً، لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها، لأنها من خفقات القلب

<<  <  ج:
ص:  >  >>