ومضت ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا وجهاً لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها، ثم فر أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر. . .
على أن الرافعي لم ينس صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك اليوم وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدث إليه فيما كان بينه وبين (فلانة)، ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها وهو يقول:(هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت. . .!) ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت. . .
وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام تستشفي منذ عام فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم؛ فكتب إلى صديقة في (دمشق) لتزورها في مستشفاها وتكتب إليه بخبرها؛ فكتبت إليه:
(. . . . . . بالصدق يا صديقي إنني كلما استعدت بذاكرتي وصية (فلانة) المؤلمة ونتيجتها المحزنة، تعتريني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له. . . إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزاً ثميناً لا يحصل عليه إلا السعيد. وإني أتهمك قانوناً. . . بأنك كنت السبب فيما نابها، فماذا عليك لو لبيت الدعوة؟ آه، لقد كنت قاسياً وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا بل حين تعتقد أن الرجل. . . . . . لا، السكوت أولى الآن. . .)
أما هذه (الوصية) التي أوصت بها (فلانة) زائرتَها لتبلغها إلى الرافعي، فلست أعرف ما هي؛ فقد قص الرافعي هذا الجزء من الخطاب قبل أن يصل إليّ، ولست أعرف أين خبأه من مكتبه، ولعل ولده الدكتور الرافعي يدري، فإن كان عليه حقاً للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئاً له قيمته في البحث الأدبي
قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد، لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاماً من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك: حشواً من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة؛ هي