العاطفة ورزانة العقل، أو قل بعبارة أوضح بين الشعر كفن والفلسفة كميزان لجميع الفنون والعلوم. تدل على ذلك قصائده العديدة التي تحمل خلال جميع أبياتها جرثومةً من مسحة العقل وأثراً من عمق التفكير. وما أشعاره في الحقيقة إلا قبس من النور يومض في عتمة تلك الحروب المذهبية السياسية الحالكة التي اندلعت في إنكلترا بسبب تحطيم الأرستقراطية على صخرة الديمقراطية الناشزة. وهل أوحى إلى ملتون بملحمة الفردوس المفقود غير ذلك النزاع الذي خاض غماره؟ أم هل كانت أشعار ملتون جميعها إلا صورة جلية تتبين منها حقيقة ذلك النزاع؟
ابتدأ ملتون يعبث بالشعر ولما يبلغ بعد الثالثة عشرة من العمر. ولئن كانت أشعاره إذ ذاك خالية من ابتكار المعنى إلا أنها كانت - بالنسبة لصغر سنه - تحمل بين أسطرها جراثيم النبوغ والتفوق. فهذه قصيدته الشهيرة المعروفة والتي نظمها عام ١٦٢٩ تكاد تكون لروعتها وجمالها خير قصيدة غنائية في الشعر الإنكليزي، بل هي من فتىً حدث كملتون لم يبلغ بعد حدّ نضوج العقل والعاطفة، أروع قصيدة على الإطلاق. . .
وفي عام ١٦٣٣ نظم ملتون قصيدتين رائعتين وهما:
(١) ' و (٢) وقد أجمعت آراء الأدباء على أنهما خير نموذج للجيد من شعره، وذلك لما فيهما من الدقة البالغة في التصوير والحرارة الملتهبة في الشعور. وفي عام ١٦٣٤ نظم قصيدة القومس وهي قصة شعرية دراماتيكية، يكثر فيها ظهور الأحراج والأشباح الغيبية، ولكنها ليست من دقة الفن بقياس قصص شكسبير الدراماتيكية التي من نوعها - كدرامة كما تحب مثلا - وذلك لأن شكسبير كان شاعراً بالفطرة، وبارعاً في تمثيل سوءات المجتمع وعاداته؛ وهو إذ ينظم القصيدة فكأنما يصور بالألفاظ عواطفه الحساسة، وينحت في صخر اللغة مشاعره الوثابة، بينما كان ملتون - مع اعترافنا به كشاعر فذ - مبالغاً في التصنع، ومسرفاً في إجهاد القريحة، واستفزاز المخيلة، فمعانيه - في معظمها - تكاد تقرب من الابتذال في شيوعها، وأخيلته إلا القليل منها مستكرهة على الشعر، ثقيلة على الطبع لشذوذها. وليس أدل على هذا من مناجاة كومس لليدي!! ولعل خير قطعة في هذه القصيدة هي تلك التي تمثل الشجار بين ليدي وكومس، وذلك لأنها قطعة فنية من نفس ملتون الثائرة المتمردة التي تهزها الثورة أكثر مما تحركها الدعة والطمأنينة، ولأنه في هذه