وتنتظره حتى يجيء من عمله. فإذا جاء رآها قائمة وراء الباب منتظرة فقبلت يده، ثم أعانته في نزع ثيابه، وصبت على يديه الماء حتى يتوضأ ويغسل رأسه ووجهه بالصابون، ثم قدمت إليه الطعام، ولم تدخر وسعاً في تسليته وإيناسه. وإذا كان كئيباً أو مهموماً رفهت عنه وواسته. وأضاق مرة ولحقه الدائنون حتى هددوه بالسجن من أجل عشرين ليرة، فلم يشعر إلا وزوجته تقدمها إليه زاعمة أنها قد وفرتها من نفقات المنزل، فصدقها ووفى دينه؛ ثم علم بعد أنها باعت حليّها التي لا تملك غيرها. . .
كانت مثال الزوجة الشرقية المسلمة التي تعيش لبيتها وزوجها وتتخذه سيداً لها؛ وكان هو مثال الزوج الوفي الصالح الذي يشتغل ويحيا لزوجته وبيته، ليس له سهرة ولا خليلة ولا عادة من العادات السيئة التي تذهب الأموال وتشقي العيال. . .
ثم ذهب الفكر بسعد إلى ولده، ولده الوحيد يسار، فهاجه الشوق إليه، وبرّح به الحنين إلى بيته، وغلب على حبِّه لهذه الأرض وتعلقه بها. وكان الليل قد انتصف ولم يذق سعد مناماً فنهض ورفع طرف الخيمة فنظر فإذا السماء صافية قد انقشعت عنها الغيوم، وطلع القمر من وراء الأفق هلالاً ضعيفاً يلقي على الدنيا نوراً كابياً، فرأى الكرم أسود مظلماً فعاوده الحنين إليه والحزن على فراقه؛ وكانت منزلة الكرم من نفسه كمنزلة زوجته وولده، بل كانت هذه المنطرة أحب إليه من بيته. وجعل يتأمل الكرم فامتلأ قلبه أسى؛ وذكر ليلى ويساراً فأزمع الرحيل ولكنه اضطر إلى انتظار الفجر، ولبث صامتاً فغلب عليه النعاس فأغفى إغفاءة قصيرة ثم نهض مذعوراً يرتجف. لقد رأى حلماً مرعباً فتعوذ بالله وسأله أن يحرس زوجه وولده، ولم يطق البقاء فقام يجمع أمتعته - وما أمتعته إلا فراش ولحاف وبساط وخيمة وصندوق صغير فيه قدر وأطباق وإبريق للشاي - ويلقى على المنطرة النظرة الأخيرة كأنه يريد أن يثبت صورتها في نفسه، وأن يودع ما فيها من ذكريات لذة هي أعز ما يملك في حياته، ثم نزل إلى دابته والفجر يهم بالانبثاق. . .
راقه سكون الليل وجمال الفجر وهذه الكروم الواسعة التي استيقظت وتسربت إليها خيوط النور من ناحية الشرق فأضاءت صفحتها، فاشتد به الحنين إلى زوجته وولده، وشعر أن حبه لهما قد نما في هذه الساعة وازداد وطغى على نفسه، فجعل يتصور حركاتهما وسكناتهما، وكيف يخرجان لاستقباله، وكيف يتعلق به يسار فيرفعه إلى وجهه ويقبله؛