للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورنت في أذنيه كلمة (بابا) حلوة مستحبة، وشعر بعالم من الحب والعطف والوئام يغمره، حتى أحس بنفسه يطير على متن الهواء في حلم فاتن لذيذ، فانطلق يغني شتى الأغاني القديمة وصوته العذب القوي يشق السكون ويوقظ الطبيعة، فتجاوبه الديكة من الكروم المجاورة بزقائها، والعصافير بسقسقتها الحلوة

أشرف على البلد ضحى، فتأمل الفضاء فلم يبصر شيئا، أين البلد؟ هل أخطأ الطريق؟ أم هو لا يزال بعيداً عن البلد؟ لقد نظر حوله وأنعم النظر فلم يشك أنه حيال البلد. لقد سلك هذا الطريق مئات المرات، ويستطيع أن يسلكه مغمض العينين، فكيف يخطئ أو يضل؟ لا شك أنه على صواب، وأنه قد وصل، ولكن أين البلد؟ وأحسّ سعد كأنه قد بدأ يجنّ. أتختفي بلد برمتها أيها الناس؟

ودنا حتى وصل البلد، فلم يجد إلا أكواماً من التراب مبتلة عليها آثار الماء، تتخللها برك مالها من آخر، وحجارة منثورة في البادية نثرا، فجن جنونه، وانطلق يصيح: ليلى! ليلى! يسار! يسار! ليلى. . . ويهم شارداً على وجهه، يدور بلا وعي، وإذا بشيخ مسنّ من حكماء القرية يهتف به ثم يأخذه من يده، فيتبعه سعد صاغراً، حتى يجلسا على كومة من هذه الأكوام. . .

- هذه حال الدنيا يا بني. . . إن لله حكمة لا يعلمها أحد، فلنصبر ولنرض بالواقع، الحمد لله على كل حال. . .

- ولكن ماذا جرى يا عم؟ أين ليلى، أين ابني يسار؟

- هذا قضاء الله يا بني. لقد كنت نائماً ليلة أمس فسمعت ضجة في الطريق ولغطاً، فخرجت فإذا الناس مجتمعون، وعلى وجوههم إمارات الذعر الشديد، وهم يصغون في خوف شديد ورعب بيّن، إلى صوت عجيب آت من بعيد، فأصغيت فإذا صوت عميق مستمر لا ينقطع، فجزعنا ولم ندر ما هو؟ فقائل إنها ريح، ولكنه ليس بصوت ريح، وقائل هو من أصوات الجن، وقائل إنه رعد، وما هو كذلك، فوقفنا وتهيأنا للنضال، وحملنا السلاح، وكان الصوت مستمراً ولكنه جعل يقوى. . . ويقترب حتى تبينا فيه هدير الماء. . . إنه السيل! السيل! وطارت هذه الكلمة على الأفواه، فأسرع قوم إلى بيوت القرية العالية، يحسبونه سيلاً كالذي عرفوا من السيل، لا يبلغ هذه البيوت؛ وخاف قوم فأسرعوا إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>