للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يا من تشابه منه الخَلق والخُلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق

توريد دمعي من خديك مختلس ... وسقم جسمي من جفنيك مسترق

لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يتشكى من به رمق

ومثله قول أبي فراس الحمداني، وكأني بهما ينهلان من معين واحد، أو أن أبا الفرج جرى في ميدانه لما أعجبه حسن بيانه؛ وما من عابٍ عليه أن يسير على نهج أبي فراس، فهو في الشعراء ملك وفي العلياء فلك، قال:

وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما

أخذت دمعك من خدي وجسمك من ... خصري وسقمك من طرفي الذي سقما

وترى أن بيتي أبي فراس أنضر معنى وأوفر حسناً، وأجزل رقة وأجمل دقة من أبيات أبي الفرج، وإن كلمة تسافر لنابية في مكانها، قلقة في موضعها، لأن الحدق لا يسافر، وإنما هو ينتقل أو يتحول، كما أن السقم لا يسترق إلا إذا كان مسترقه يسعى إلى حتفه بظلفه كما يقولون

ولو أنا أردنا لغزله العنيف استقصاء، ولنسيبه الطريف إحصاء، لطال بنا الشوط وما بلغنا الغاية؛ فلنختم غزله بأبيات بعث بها إلى حبيب رمدت عيناه فأبدع أيما إبداع في الأسى لأساه ووصف حمرة عيني حبيبه، وهي تلك التي تقذى لرؤيتها العيون، وتتأذى من النظر إليها الأبصار وصفاً جعلها مما يسعد لرؤيتها الطرف، وصورها تصويراً تطمئن له النفس، قال:

بنفسي ما يشكوه مَن راح طرفه ... ونرجسُه مما دهى حسنه ورد

أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه ... فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو

غدت عينه كالخد حتى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخد

لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي ... لقد طالما استشفت بها أعين رمد

والوصف في شعر أبي الفرج له المقام الأول، فجل فنون شعره يحليها الوصف، وتنتظم التشبيهات الدقيقة الخلابة، والأوصاف البارعة الجذابة؛ وإن وصفه ليبلغ ذروة الإجادة والإحسان، ويصل إلى منتهى الجمال والجلال عندما يصف الحرب، أو ما يتصل بها من حشد الكتائب وتسيير الجحافل؛ وقد عرفنا أن طبيعة كل امرئ أن يحسن فيما يحبه، وأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>