يجيد القول فيما يرغبه، فلعلَّ أبا الفرج كان من رجال الحرب وأبطالها. أصخ إليه يصف جيش سيف الدولة، فإنه ليصك الآذان بريح الحرب تدوي في قصيده، فقصف الرعد وزمزمته دون صهيل الخيول، ووميض البرق ولمعانه لا يبلغان بريق السيوف، وحوافر الخيل أهلة ونجوم تنافس ذكاء، تلك تضيء في السماء، وهذه تتطاير رجوماً للأعداء، وعين الشمس قد طرفها بعثيره ولكنها احتملته وجعلت منه إثمداً تحتكل به وتستشفى؛ كل ذلك في ألفاظ جزلة وعبارات ضخمة، وطبع قوي، وخيال سري؛ لا ينال من جماله ناقد، ولا يحط من جلاله حاقد، قال:
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شُعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
رد الظلام على الضحى فاسترجع ال ... إظلام من ليل العجاح الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناطرين أهلة في الحلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
وهذه أبيات من قصيدة أخرى يمدح بها أبا شجاع فاتك بن يانس، ويصف فيها إحدى وقائعه الحربية التي خلدتها هذه القصيدة بما جاء فيها من تشبيه رائع، ووصف جامع. وأي خلود لموقعة انقلب نهارها ليلاً غاسقاً، لا يكشف حلكته إلا كر الفرسان في الميدان ومبادلة الضراب والطعان، بأسياف لامعة، وصوارم بارقة قاطعة، حتى استحال البر بحراً بما سال في جنباته من دماء الشجعان، ورأى الأعداء أن الفرار رمز الانتصار، وأن أعظم فروسية يعتز بها أن يستطيعوا إعطاء الجياد القياد، لا أن يثبتوا للجلاد والذياد. قال:
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكر يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... روع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التريك وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وقد استحال البر بحراً والضحى ... ليلا ومنخرق الفضاء حديدا