من المستحيل أن نفهم هذا المخلوق الذي ندعوه (النفس)! لذلك نخاف الوحدة ونفر منها. إننا نخشى نفوسنا، ولا نستطيع أن ننفرد بها، فنحب أن نشتغل عنها بصحبة صاحب، أو حب حبيب، أو عمل من الأعمال. . . ونخشى الحياة، ونحب أن نقطعها بحديث تافه، أو كتاب سخيف، أو غير ذلك مما نملأ به أيامنا الفارغة. وإذا نحن اضطررنا مرة إلى مواجهة الحياة، ومقابلة الزمان خالياً من ألهية تلهو بها، كما يكون في ساعة الانتظار مللنا وتبرمنا بالحياة وأحسسنا بأن الفلك يدور على عواتقنا. أفليس هذا سراً عجيباً من أسرار الحياة: يكره المرء نفسه ويخشاها، وهي أحب شيء إليه؛ ويفر منها. . . ويضيق بحياته، وهي أعز شيء عليه، ويسعى لتبديدها وإضاعتها؟
عجزت عن احتمال هذه الوحدة، وثقل عليّ هذا الفراغ الذي أحسه في نفسي، فخالطت الناس، واستكثرت من الصحابة. فوجدت في ذلك أنساً لنفسي، واجتماعاً لشملي، فكنت أتحدث وأمرح وأمزح وأَضحك وأَضحك، حتى ليظنني الرائي أسعد خلق الله وأطربهم؛ بيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي، حتى يعود هذا الفراغ الرهيب، وترجع هذه الوحدة الموحشة
انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة، وأغرق وحدتي في لجة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت، فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفق لي ويهتف. . . ولكني لا أخرج من النديّ ويرفضّ الناس من حولي، وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان، وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا، كالماء تسد مخرجه فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. . . فماذا يفيدني أن أذكر في مائة مجلس أو يمر اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألما؟. .
وجدت الشهرة لا تفيد إلا اسمي، ولكن اسمي ليس مني، ولا هو (أنا) فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي، فلم أجد الحب إلا اسماً لغير شيء، ليس له في الدنيا وجود، وإنما فيها تقارب أشباح:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان؟