واستشرى خطبه، فأراد عبد الحميد أن يحاربه بكتبه لا بكتائبه، وأن يأسره بلسانه لا بسنانه، فكتب إليه على لسان مولاه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كتاباً يستصفيه وده ويستخلصه إليه، وقال لمولاه: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره؛ فإن يك ذلك وإلا فالهلاك. ولكن أبا مسلم داهية الفرس ودهقانها وقائد خراسان ومحنكها لم يكن بالغر يلعب بعقله الأدب، وتشغله عن واجبه الكتب، فلم يعبأ بالكتاب ولا بالاه، بل أمر بإحراقه وتركه تذروه الرياح، وكتب على قطعة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
في أعقاب عصر عبد الحميد وابن المقفع وأضرابهما وفي طلائع العصر الثاني الذي تحوّل فيه حال الكتابة وتبدل أمرها؛ إذ طغى العجم على العرب واستهتر الكتاب بالمجون والخلاعة، وصّيروا الكتابة أداة من أدوات اللهو، وسبباً من أسباب الدعة، وجعلوا لها من الأغراض ما للشعر وزيادة، أهلَّ أبو الفرج، وعلى لوائها أبو الفضل بن العميد، وقد فُتن ومن لاحقه باللفظ المبهرج والأسلوب المزخرف، فالعبارات موشحة مرصعة، والفقرات مجنسة مطبقة، وأنواع البديع في الكتابة كزهر الربيع إلا أنها لا تجيء عفو الخاطر أو ربيبة القريحة كما كانت قبلا، بل تأتي بكد ذهن وعصر مخ وإعمال فكر؛ أما المعنى فكانت له لدى كتاب هذا العصر المنزلة الدنيا، فالأفكار ضيقة، والأخيلة محصورة محدودة؛ لذلك سرى في الكتابة روح غير روحها الأول، وسار الكتاب وئيداً إلى غير النهج الأمثل. على أن ابن العميد ولداته ومنهم أبو الفرج لم يغلوا غلواً ممقوتاً، ولا تطرفواِ تطرفاً ممجوجاً، فعل من أتى بعدهم ممن سار على دربهم، فلم يصلوا إلى ما وصل إليه أسلافهم، فقد كانت أخيلة ابن العميد فارسية في حلة عربية، وألفاظه زائنات معانيه، ومعانيه درر كشفت عنها ألفاظه. ولقد ضرب به المثل فقيل:(بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) وكأني بصاحب هذا المثل يريد أن يكسف شموساً أشرقت من بعده وفي عهده، وأن يخسف بدوراً سطعت على كثبه لا فضل له عليهم إلا أن الدنيا لم تسر في ركابهم، والملك لم يقف على بابهم. وهذا أبو الفرج سرى على ضوئه وارتشف من نبعه حتى روي؛ وسار في عدوائه وضرب، حتى بلغ غاية المتأمل، ووصل إلى مرتبة المتفضل. وسأعرض قطعة من غرر نثر ابن العميد ترسل إلينا قبساً من سناه، وتكشف لنا عن سمو نثره وعلاه،